منذ أقدم العصور شغلت ماهية المادة و تركيبها الدقيق عقول البشر ، ساهم كل بدوره على مر الأجيال و ماتوصلنا إليه عبر رحلة التساؤل العظمى هذه فاق كل التوقعات الخيالية
البدايات الأولى
"في الإقتناع هناك عذوبه ، و في الإقتناع هناك مرارة ، و لكن في الحقيقة هناك فقط ذرات" بأبيات الشعر هذه دشن ديمقريطس الإغريقي مقولته الشهيرة حول أصغر مكونات المادة التي لا تقبل الإنقسام قبل ألفي سنه ، و رغم أنه جانب الحقيقة بعض الشيء إلا فكرته العبقرية هذه ظلت الأقرب لروح العلم الحديث من نظيراتها المنسية.
"في الإقتناع هناك عذوبه ، و في الإقتناع هناك مرارة ، و لكن في الحقيقة هناك فقط ذرات" بأبيات الشعر هذه دشن ديمقريطس الإغريقي مقولته الشهيرة حول أصغر مكونات المادة التي لا تقبل الإنقسام قبل ألفي سنه ، و رغم أنه جانب الحقيقة بعض الشيء إلا فكرته العبقرية هذه ظلت الأقرب لروح العلم الحديث من نظيراتها المنسية.
فالمادة عند هرقليطس كانت تجليات للنار لا تثبت على حال فأنت " لا تخطو في نفس النهر مرتين" كما أنشد قديما، أما إمبدوكلس فلم يمنح النار سوى دور أحد العناصر الأربعة التي تتكون منها أي مادة بالإضافة للهواء و التراب و الماء و لكنه أنار لوعينا فكرة أن التفاعلات بين المكونات الأساسية هام لوجود المادة كما نعرفها. ثم يأتي فيثاغورث الذي سحرته فكرة أن الموسيقى يمكن تحليلها بالرياضيات ليعلن أن أصل المادة توافقات حسابية مجردة. كل هذه الأفكار لم يغيبها النسيان و عادت للإنبثاق عبر العصور في كل أفكارنا الحديثة حول حقائق الأشياء!
الذرات و الكهربية و النظائر
في عام 1803م أعاد العالم الإنجليزي جون دالتون إحياء مفهوم الذرة ليفسر به سبب دخول العناصر الكيميائية في التفاعلات بنسب متساوية و خصائص ذوبان الغازات في السوائل ، و سرعان ماعدل العالم ج.ج.تومبسون صورة الذرة البسيطة هذه بإكتشافه للإلكترون و لنظائر العناصر ( ذرات لنفس العنصر تختلف في وزنها الذري).
عند إكتشاف العالم البريطاني إرنست رذرفورد عام 1909م أن أنوية الهيليوم الموجبة تخترق بسهولة غشائا رقيقا من الذهب مع إنعكاسات بسيطة خلص لنتائج مدعمة بحسابات دقيقة و مقنعة تزعم بأن الذرة مكونة من نواة صغيرة موجبة تدور حولها الإلكترونات المتناهية الصغر في مدارات ضخمة جدا بحيث يكون أغلب حجمها فراغا خاويا. و تواصلت الدراما بخطوات متسارعة حيث أثبت جيمس شادويك وجود جسيم متعادل بقلب نواة الذرة أسماه النيوترون في عام 1932م . كانت هذه الإكتشافات مذهلة حطمت فرضية الذرة المصمته الإغريقية و فرضت وجود الأجسام المشحونة كهربيا التي تحمل الوحدات الأساسية للكهربية كحقيقة لا تقبل الجدل بعد قرن من التجارب المثمرة في الكهربية.
المادة المضادة و الجسيمات الأولية و النسبية
بول ديراك عبقري الفيزياء الصغير تنبأ لأول مرة عام 1927م بوجود المادة المضادة أثناء تطبيقة لمعادلات النسبية الخاصة على الإلكترون ، حيث إفترض وجود مادة أخرى بالكون تحمل كل خصائص المادة العادية ماعدا أن لها شحنة مضادة ( أي إلكترون موجب الشحنة و بروتون سالب الشحنة و هلم جرا) و جمال الأمر هو أن هذا الإفتراض نتج فقط عن سعيه لموازنة معادلاته لتحمل تناسقا و تناظرا رياضيا جميلا يبدو أن الكون لم يبخل به عليه و فاز سليل فيثاغورث بجائزة نوبل.
الجدير بالذكر أن معادلات النسبية التي ساهمت في إنجاز ديراك التاريخي هذا علمتنا أيضا أن المادة و الطاقة وجهان لعملة واحدة ، و ما إنفجار القنبلة الذرية بهيروشيما ببعيد، مما يعطي بعدا جديدا للمادة لم يكن يخطر على بال أحد و أفترض أن هيرقليطس يبتسم الآن بغبطه لرواج فكرته القديمة!
أما ولفانغ باولي فقد إفترض أيضا عام 1932م نوعا جديدا من جسيمات المادة أسماه النيوترينو ليفسر به هذه المرة الإختفاء الغامض للطاقة أثناء تحلل النيوترون إلى بروتون و إلكترون في عمق الشمس وسط تفاعلاتها النووية الصاخبة. فتح هذا الباب على مصراعيه أمام إكتشاف أنواع جديدة من الجسيمات الأولية التي إنهالت فجأه على العلماء بالمئات بعدما نجحوا في إستعمال المسرعات المغناطيسية ليجعلوا البروتونات تتصادم بسرعات هائلة مولدة الهدرونات (الإسم الجديد الجمعي لهذه الجسيمات الأولية) . من حسن الحظ إستطاع العلماء السيطرة على هذه الفوضى بإكتشافهم أن البروتون و النيوترون و غيرهما من الهدرونات مكونة من جسيمات أكثر أساسية تدعى الكواركات ، ضربة قاصمة أخرى للمفهوم القديم للذرة التي لا تنقسم !
المادة المظلمة و الطاقة المظلمة
منذ عام 1933م بدأت الأدلة الفلكية في التراكم مجبرة العلماء على الإعتراف
بوجود صور أغرب للمادة في هذا الكون لا تزال مجهولة تماما لنا ، فمن تقدير كثافة الطاقة بالكون يقدر بأن 4% فقط مها تتكون من المادة و الإشعاع الذي نعرفهم و 22% من المادة المطلمة و 74% من الطاقة المظلمة . و رغم أن بعض رفاقنا القدامى كالنيوترينو يساهمون أحيانا في هذه الكتلة الغامضة إلا أن جلها يتكون من لغز كبير لا نزال نفكك أجزائه رويدا رويدا. هذه الطاقة المظلمة يعتقد بأنها مسئولة عن تسارع التوسع الكوني (جاذبية عكسية) المشاهد بالتجربة .. مسألة تفسيرها ستكون في عمق أي نظرية حول الطبيعة النهائية للواقع الفيزيائي.
حاليا ينظر لها كطاقة ملازمة للفراغ (العدم) تفسرها علاقة اللامحققية المشهورة لميكانيكا الكم حيث لا يمكننا القول بحسم بقيمة صفرية لأي طاقة، ربما نستطيع حصاد هذه الطاقة المجانية لاحقا إن كان كوننا هذا كله مجرد عضو واحد في أكوان متعددة/متوازية لا تحصى كما تتنبأ بعض النظريات الفيزيائية اليوم و كما رسمته ريشة كاتب الخيال العلمي المشهور عظيموف في أحد أجمل رواياته !!
اللبنات الأساسية و موسيقى الأوتار
حاليا نعرف عن المادة مايلي:
أنها مكونة من جسيمات أولية تنقسم إلى بوزونات و فرميونات، تختص الأولى بالقوى بين الثانية. الفرميونات تتكون من الكواركات ( علوي، سفلي، فوق، تحت، غريب، ساحر) و لبتونات (إلكترون، ميون، تاو، إلكترون-نيوترينو، ميون-نيوترينو، تاو-نيوترينو)، أما البوزونات فتتكون من بوزونات القوى (فوتون، غلون، W،Z) و بوزون هيغز أو الجرافيتون. و نملك عدد من النظريات الرائعة تسمى نظريات التوحيد الكبرى تصف لنا بدقة رياضية عاليه سلوك كل من هذه المكونات و حقيقة كونها شيئا واحدا فيما مضى عندما كان للكون درجة حرارة (طاقة) مذهلة الإرتفاع.
يتبقى أن نذكر نظرية واعدة رائعة تتغلب على الصعوبات الكبيرة التي يعاني نموذجنا القياسي منها، ألا و هي نظرية الأوتار التي تعدنا بتزاوج النسبية العامة مع ميكانيكا الكم ( ذان الغريمان اللدودان!!) . تتلخص فكرتها الأساسية أن كل هذه الجسيمات الأولية ماهي إلا مظاهر لتذبذب أوتار في غاية الصغر بحيث تعطي كل ذبذبة لوتر ما (نغمة) جسيما أوليا ما ، و هي ذات جهاز رياضي في غاية التعقيد و الجمال رغم أنها لم تختبر تجريبيا بما يكفي بعد لقبولها الكلي. الشيء المثير فيها إضافة لحلها لمجموعة من المعضلات الكبرى في فهمنا للثقوب السوداء و نشأة الكون أنها تتطلب أن يكون لكوننا الحالي إحدى عشر بعدا تتذبذب خلالها هذه الأوتار حتى تكون معادلاتها متسقة رياضيا !
و لله در الرائع محسن خالد حين تغنى:
إيه الخلاني ضيعتك ياروح
و عمدك في ريفي الحزين
لو فكرة جابوك من وجود ذو 11 بعد
الباقي من أبعادي وين
و من قبلك كيف كان طقس الكلام
و آدم صاني طين
هناك تعليق واحد:
هيغز و الجرافيتون
إرسال تعليق