الخميس، 10 مارس 2016

الأعراق ،السلالات، الإثنيات .. رؤية علمية

عن البشر  المعاصرين و الأعراق
منذ بدء الخليقة و حتى بضع قرون خلت كان الإعتقاد الشائع هو أن الأرض قارة ثابته و الشمس متحركة من فوقها من شرقها لغربها، كان القول بعكس هذه الحقيقة المشاهدة الواضحة ضربا من الجنون حتى قلب العلم الحديث هذه الصورة رأسا على عقب لدرجة عدنا فيها نتسائل من بعد: كيف كان الناس يتصورون الأمر  على عكس هذه البديهة ؟
الآن هناك بوعينا المعاصر هناك صورة مقلوبة كالتي سلفت، لا تزال تبدو لنا كحقيقة بديهية مشاهدة مع أن العلم الحديث قد صححها منذ بضع عقود بشكل ثابت و واضح، ألا و هي أنه لا وجود للأعراق البشرية Human Races على الإطلاق و أننا متشابهون لدرجة لا تمييز فيها بيننا كبشر رغم كل إختلافاتنا الظاهرية المدهشة كإدهاش ثبات الشمس رغم حركتها المشاهدة بكبد السماء.
الجنس البشري يصنف علميا كـ Homo Sapiens لتمييزه من الأجناس الحية الأخرى كالشمبانزي مثلا Pan troglodytes ، و هذا الأخير له عدة أعراق Races تبلغ الخمسة و تعيش كل منها في منطقة جغرافية مختلفة (علميا يطلق على الأعراق المختلفة تحت-الجنس Subspecies)، لكن ظاهريا لربما لن يستطيع غير المختصين تمييز هذه الأعراق عن بعضها لأن التعريف العلمي لها يعتمد على إختلافات شفرتها الوراثية DNA و ليس على مجرد مظهرها الخارجي (المتشابه بشده)، هذا يعني أن تعريف العرق هنا يعتمد على أن يتشابه أفراد العرق الواحد جينيا بما فيه الكفاية ليتميزوا عن أفراد الأعراق الأخرى  بحيث يكون هناك إنعزال جيني بينهم يتيح تصنيف كل فرد مع مجموعة واحدة  فقط بدراسة جيناته و مدى تشابهها و إختلافها مع المجموعات العرقية الأخرى.
إن طبقنا هذا التعريف العلمي البيولوجي على بني الإنسان فلسوف نفاجأ بحقيقة بائنة الوضوح : كل البشر المعاصرين ينتمون لنفس العرق Subspecies ذاته و هو  Homo Sapiens Sapiens على عكس كل الأجناس الحية الأخرى التي تتنوع أعراقها كثيرا !
لنقدر هذه الحقيقة حق قدرها علينا بضرب مثال بسيط، إذا إخترنا فردين عشوائيا من السكان الأصليين لقارة أوروبا مثلا (دون المهاجرين) و درسنا إختلافهم الوراثي عن بعضهما البعض بحيث قدرنا نسبة الإختلاف الجيني بينهما، ثم إخترنا عشوائيا أي فرد من السكان الأصليين لقارة أفريقيا و قمنا بعقد مقارنة بين إختلافه الوراثي معهما فسنخلص في الغالب لنتيجة تقول بأن الإختلاف الوراثي بين الأوروبيين أضخم من الإختلاف الوراثي بين أي منهما و الأفريقي ! بحيث يمكن مثلا أن تكون كلية الأوروبي أكثر مناسبة للزرع في الأفريقي منها في الأوروبي الآخر لكونها أكثر شبها بها ! و هذا بحق ما نعنيه بقولنا أننا جنس واحد فقط بلا أعراق و أننا لا ننقسم لمجموعات بشرية منفصلة جينيا كما هو الحال مع الشمبانزي على سبيل المثال، و أغلب الدراسات العلمية تقول بأن الإختلاف الجيني داخل المجموعات الجغرافية البشرية يقارب الـ 85% ، بينما يقارب الإختلاف الجيني بين المجموعات الجغرافية البشرية المختلفة 15% تقريبا.


المظاهر الخداعة للتصنيف العرقي
و لكن كيف يمكن تفسير هذه النتيجة الجينية الصاعقة مع واقع الإختلاف المشاهد في أشكال البشر و إنقسامهم الظاهري لـ مجموعات عرقية بائنة الوضوح كالأفارقة و القوقازيين و المنغول و غيرهم ؟  الجواب بسيط جدا في الحقيقة، فهذه الإختلافات الشكلية أولا لا تتحكم بها سوى كمية ضئيلة جدا من الجينات (لون الجلد و الشعر مثلا تتحكم به منطقة جينية واحدة فقط One Locus) ، و ثانيا فإن الإختلاف هنا تكيفي Adaptive بحيث تتغير فقط المناطق المسئولة عن التحكم بنشاط الجينات و ليس الجينات نفسها، فمثلا كل البشر يملكون نفس العدد من الخلايا اللونية Melanocytes و  يتمثل الإختلاف اللوني فقط في درجات نشاطها المختلفة بينهم لا أكثر، و أخيرا فإن الزمن اللازم لظهور هذه التكيفات قصير نسبيا بالمقارنة مع التغيير الجيني.
و هكذا فبرغم أن المظهر الشكلي اللوني مثلا يقسم البشر ظاهريا لمجموعات مختلفة إلا أن هذا لا يعكس إنفصالا جينيا بحيث تكون بقية الصفات  تابعة للتوزيع اللوني، فمثلا إذا قسمنا البشر على أساس الطول مثلا  ( و هو صفة متحكم بها جنينيا أيضا) فسنجد أن المجموعات المتجانسة طوليا ستغدو شديدة الإختلاف عن المجموعات المصاغة على أساس اللون ! و إذا قسمناهم على أساس الذكاء فستتغير المجموعات مرة أخرى و هلم جرا، هذه الإستحالة في الحصول على نفس التقسيم بالذات بإستخدام صفات و جينات مشتركة هو ما يثبت أن البشر ليسوا منفصلين لأعراق مختلفة بل إن إنقسامهم الظاهري هو مجرد نتيجة عرضية لمجموع صفات شديدة التغير  و ذات أساس جيني ضئيل جدا.
فعلى سبيل المثال اللون الأسود يلعب وظيفة حمائية جيدة من الأشعة فوق البنفسجية الضارة قرب خط الإستواء بينما تحول اللون إلى الأبيض مع هجرة البشر لخطوط العرض العليا حيث تقل تلك الأشعة كثيرا مما يقلل من تصنيع فيتامين د الهام جدا للعظام  فيصبح هناك ضغط تطوري شديد لنقص التصبغ بالجلد فيتحول عبر آلاف الأجيال للأبيض. و الشعر المجعد يحبس الهواء مشكلا طبقة عازلة تحمي الرأس من حرارة الشمس العمودية بخط الإستواء بينما الشعر المسترسل مفيد في المناطق الباردة ليغطي الرأس و الرقبة من البرد و يمنع الرياح الباردة من إفقادهما للحرارة، أما الأنف المفلطح فمناسب ليمر الهواء و يبرد في الجو الحار الرطب بينما الأنف الضيق الطويل مفيد لتدفئة الهواء البارد كي يحمي الرئة من الأمراض و هلم جرا.
يمكن فهم هذه النتيجة بشكل أفضل تطوريا بإستعراض تطور الفهم لإصول الإنسان، ففي مرحلة ما كانت هناك نظرية تسمى بالإصول المتعددة و تدعي بأن أشباه البشر القدماء Hominina  كانوا هم الأسلاف المباشرين للبشر المعاصرين بحيث نتج عرق بشري مختلف بكل قارة مختلفة من أسلاف شبه بشريين مختلفين، و لكن هذه النظرية سرعان ما سقطت لصالح نظرية الأصل الأفريقي التي أثبتت أن كل البشر الحاليين هم أحفاد لمجموعة بشرية قديمة ظهرت بأفريقيا أول مرة قبيل مئتي ألف سنة تقريبا، ثم توسعت هذه المجموعة بالهجرة من القارة الأم بأفريقيا قبل ستين ألف سنة تقريبا لتمر عبر الجزيرة العربية فأوروبا و آسيا أولا ثم أمريكا و إستراليا لاحقا، كما عادت بعض السلالات إلى أفريقيا من جديد بحيث يكون الغالبية العظمى من البشر الحاليين بكل القارات أحفادا للمجموعة البشرية الضئيلة العدد التي خرجت مستكشفة للعالم الواسع، و تكون الصفات الشكلية الحالية الشديدة الإختلاف مجرد تعبير قريب عن تكيفات تطورية رافقت هذه الهجرات الواسعة، بهذا يكون مفهوما تماما لم لا ينماز البشر لعرقيات محددة، فتاريخهم قصير جدا على سطح الأرض بحيث كان الإختلاط الدائم بينهم عبر الهجرة كافيا للحفاظ على هويتهم الجينية الموحدة تماما رغم كل الوهم المضاد لهذه الحقيقة البسيطة !

قصة الهجرات البشرية
برغم أن كل إنسان هو تركيب جيني فريد و أن البشر _لقصر ظهورهم على مسرح التاريخ و إستمرارية إختلاطهم ببعضهم_ يشكلون تركيبة جينية واحدة إلا أن هناك طريقة لتتبع مسارات الهجرات البشرية من مهدالبشرية بأفريقيا عبر التاريخ، الفضل في هذا يرجع للكروموسوم الذكوري Y الذي ينتقل كوحدة واحدة من غير أي إختلاط جيني من الأب لأبنائه فأبنائهم و هلم جرا، على عكس كل الكروموسومات الأخرى التي تختلط مادتها الوراثية ببعضها البعض من جيل لآخر ، هذه الوراثة الفريدة تمتاز بها أيضا الشفرة الوراثية لمصانع الطاقة الخلوية (المايتوكوندريا) حيث تنتقل هذه العضيات organelles   (التي كانت بالماضي السحيق خلايا مستقلة تملك شفرتها الخاصة) عبر البويضة فقط من الأم لبناتها فبناتهم و هلم جرا.

هذا الإنتقال للكروموسوم الذكوري يرسم سلسلة غير منقطعه مميزة ترجع بكل منا عبر سلسلة (أب عن أب عن أب ... إلخ) حتى نصل للجد الأبعد لكل البشر الأحياء حاليا ! كما أن سلسلة (أم عن أم عن أم ... إلخ) ترجع بنا أيضا للجدة الأبعد لكل البشر الأحياء حاليا. لكن إنتبهوا، هذا لا يعني أنه كان الرجل الوحيد حينها و لا أنها هي كانت المرأة الوحيدة حينها بل قد تفصل بينهما فعليا عشرات الآلاف من السنين، فنحن هنا لا نتكلم عن أقرب زوج (أب و أم) تنحدر منهم كل البشرية الحالية Most recent common ancestor (يقدر وجود هذا الزوج في حدود الخمسة آلاف سنة الأخيرة) بل عن أقرب سلف  أبوي Patrilineal  و إمومي Matrilineal للبشر المعاصرين فقط (في حدود مئتي ألف سنة تقريبا) – إنظر الشكل 1.

(الشكل -1 : كل النساء المعاصرات يرجعن بسلسلة أمومية متصلة لإمرأة واحده بالماضي البعيد لم تكن الوحيدة من بني جنسها حينذاك)

بالإمكان عبر طرق علوم الجينات و الإحصاء و الحوسبة أن نبدأ من المعلومات المخزونة بجيناتنا لنقوم بإعادة رسم تاريخ أسلافنا و مسارات هجراتهم التي إنتشروا عبرها بالكرة الأرضية و ذلك عبر تتبع الطفرات المميزة للسلالات Haplogroups الأبويه (خط النسب من كل أب لأبنائه فأحفاده .. إلخ) أو الإمومية (خط النسب من كل أم لبناتها فحفيداتها ... إلخ)، و يتم منح كل طفرة جديدة مكتشفة رمزا و حرفا مختلفين و تترتب في هرمية توضح علاقات القربى عبر الزمن بين الأجداد و الأحفاد و مسارات هجرتهم و هم يملئون الأرض. (إنظر الشكل 2)
(شكل 2 – علاقات النسب و أزمان التفرعات في السلاسل الأبوية عبر التاريخ)

تبدأ القصة للسلالات الأبوية من شمال غرب أفريقيا حيث أقدم الآثار الجينية للبشرية عندما تفرعت سلالتين من أقدم السلالات البشرية تباعا، هما A   فـ  B (M60)ثم تفرعت بعد ذلك من السلالة B السلالة CT (M168 & M294) حوالي 65 ألف سنة خلت في شرق و وسط أفريقيا و هي التي بدأ معها الخروج العظيم من أفريقيا و إحتلال العالم عبر الشرق الأوسط و قد تفرعت من بعد للعديد العديد من السلالات أهمها:
- السلالة F (M89 & M213) التي تشكل بتفرعاتها حوالي 90% من سكان العالم حاليا خارج أفريقيا ( تتفرع منها السلالة J التي ظهرت حوالي 25 ألف سنة خلت و تضم غالب خطوط نسب العرب و اليهود و الأثيوبيين).
- السلالة E (M40 & M96) الأفريقية التي ظهرت حوالي 54 ألف سنة خلت و التي تضم تفرعاتها البعيدة غالب خطوط نسب الفراعنة و النوبة و البربر و غيرهم. (انظر الشكل 3 و 4)
الشكل 3 - مسارات الهجرات البشرية مع تواريخ إنفصال المعلمات الوراثية genetic markers


الشكل 4: شجرة نسب السلالات الذكورية و مواطنها و رموزها 


أما قصة السلالات الأمومية فتبدأ من قارة أفريقيا جهة الوسط و الجنوب حيث إنتشرت من هناك خمسة سلالات أمومية  L1/L2/L4/L5/L6 بينما غادرت سلالة واحدة فقط هي L3    القارة الأم حوالي 65 ألف سنة خلت على شكل سلالتين فرعيتين هما M & N ليكونا أمهات كل البشر خارج أفريقيا تقريبا. مسارات هجرة السلالات الأمومية و تواريخها تتفق و تختلف مع مسارات هجرة السلالات الأبوية و لا تتطابق ! و لهذا معناه العميق، كما سنرى لاحقا. (انظر الشكل 5)

الشكل 5 - خط سير الهجرات الإمومية مع التواريخ

من المهم في هذا السياق الوعي بتعداد الجنس البشري أثناء هذه الهجرات و التفرعات، فعلى الرغم من تعدادنا المهول حاليا في حدود سبعة مليارات نسمة إلا أن جنسنا البشري قد مر بفترة عصيبة حوالي 70 ألف سنة خلت بمرورنا بعنق زجاجة Bottleneck حيث بلغ تعداد كل البشر حينئذ ما بين ألف إلى عشرة آلاف نسمة فقط ( ما يناظر تعداد قرية صغيرة ! ) و كانوا يقطنون جميعا في أفريقيا ، ثم تضاعف العدد ألف مرة خلال ما يقارب الـ 150 ألف سنة ليبلغ قبل 10 آلاف سنة ما بين مليونا إلى عشرة ملايين نسمة و ذلك حينما إكتمل وصول البشر لكافة أرجاء المعمورة، ثم حوالي ميلاد المسيح عليه السلام بلغ التعداد 300 مليون تقريبا و كانت التاريخ يموج بالممالك الضخمة و حركات التجارة النشطة كدرب الحرير الشهير الذي ساهم في الخلط المستمر للبشر و منع إنعزالهم عن بعضهم بيولوجيا، ثم  ظل يتراوح التعداد في حدود نصف المليار نسمة حتى أوائل الثورة الصناعية و ما قبلها بالقرن السابع و الثامن عشر ميلادية حيث كان الإستعمار بمآسيه و فوائده مقدمة لترابط أشد بين أرجاء المعمورة ، ثم زاد التعداد بعدها بصورة كبيرة ليبلغ مداه الحالي خلال القرن المنصرم في زمن العولمة و مجاز القرية الصغيرة التي كناها يوما ما في غياهب التاريخ. (انظر الشكل 6)

الشكل 6 - درب الحرير لعب دورا هاما في الإختلاط الجيني

الإثنيات .. الجغرافيا و التاريخ
هناك وهم سائد يرافق إسطورة النقاء العرقي يقول بأن لكل شعب أصل واحد ينحدر منه عبر التاريخ  بعلاقة نسب متصلة و كأنما كان هناك زوج واحد (أب و أم) في البدايات البعيدة له. هذا الوهم يستبطن أن الشعوب الحالية ظلت كما هي محتفظة بهوياتها منذ فجر التاريخ بحيث يكون الألمان مثلا ألمانا و العرب عربا منذ بدء الخليقة أو من البداية الثانية المفترضة التي تحكيها التوراة عن أبناء سيدنا نوح، بينما لم يتواجد الألمان كما نعرفهم اليوم قبل 10 ألف سنة مثلا .
في حقيقة الأمر فإن لكل مجموعة بشرية تبدو متجانسة خطوط نسب سلالية مختلفة مع غلبة إحداها ، كما أن تشكل السمات و الملامح المعاصرة لقوميات بعينها مثل العرب إنما هو مناظر للتطور اللغوي لها. فمثلا لم تظهر اللغة العربية كفرع عن بقية اللغات السامية إلا قبل خمسة ألف إلى ثلاثة ألف سنة قبل الميلاد تقريبا و معها كان هناك ظهور مماثل لطفرات حددت تاريخ هجرة السلالات السامية و منها العربية مثل J-P58 ، أما الشعوب الحالية فهي خليط من خطوط سلالية متنوعة فعلى سبيل المثال تقول نتائج دراسة جينية معاصرة عن التركيب السلالي لعينات عشوائية من ثلاث دول خليجية أن السلالة الغالبة هي J1  (58% - 72%)مع مساهمات متفاوته من سلالات متعددة أفريقية B & E و أوروبية R و آسيوية C & K . (انظر الشكل 7) 
 الشكل 7 - التحليل السلالي لسكان 3 دول خليجية

من ناحية ثانية فإن حقيقة إنتشار البشر عبر مناطق جغرافية شاسعة قد خلق تدرجا طفيفا لتوزيع التكرارات الخاصة بكل جين بشري، فلكل جين عدد من النسخ المختلفة (مثل الجين الذي تحدد نسخه المختلفة ألوان العيون المختلفة). فإذا دمجنا معلومات التكرار الخاصة بكل  الجينات فإن هذا يميز العالم لمناطق جغرافية مختلفة تكون لها بصمة نتجت من تاريخ مشترك بالماضي البعيد ، هناك حوالي عشرون و نيف منطقة مثل : الرعاة الشرق أفريقيين و و الأراضي الساحلية الشمال أفريقية و أناتوليا /القوقاز و المنطقة الأفروأسيوية الشرقية. هذه التقنية مفيدة جدا كمكمل للتاريخ السلالي الذي يركز فقط على تتبع خط نسب واحد يميز سلسلة واحدة فقط من الأسلاف متجاهلا بقية الأسلاف المنسيين من الأعمام و الأخوال و العمات و الخالات على مر التاريخ، أي أن كل منا ستعود جيناته لبعض هذه المناطق الجغرافية المميزة كدلالة على الوجود التاريخي لأسلاف ينحدر منهم بتلك المناطق قديما.
المفهوم الراكز  بالعلوم الإجتماعية لفهم التنوع البشري حاليا هو الإثنية Ethnicity و هي على نقيض العرق Race ليست محدده بيولوجيا بل هي عبارة عن تركيب إجتماعي social construct يضم عناصر مختلفة كاللغة و الثقافة و الدين و التاريخ المشترك و السمات الشكلية ... إلخ مما يخلق شعورا بالإنتماء و التماهي بين أفرادها من دون أن تعني أصلا مشتركا جينيا أو سلاليا.

مثال : السلالات بالسودان
الشعب السوداني يتكون من إثنيات مختلفة و لكل إثنية خطوط سلالية مختلفة، و حسب دراسة حديثة عنه تكون نسبها كالآتي :
 A 16.9% - B 7.9% - E  34.4% - F  3.1% - I  1.3% - J  22.5% - K  0.9% - R  13%  
بحيث تسود السلالات A, B & E  في الإثنيات المتكلمة باللغات النيلية/الصحراوية مثل الفور و البرقو و المساليت و النوبة، و تسود السلالات F, K, I ,J & R  في الإثنيات المتكلمة باللغات الأفريقية/الآسيوية مثل العرب و البجه و الأقباط و الهوسا.
كل إثنية تحوز نسبا مختلفة من كل هذه السلالات تقريبا، فالأقباط بالسودان مثلا يحوزون الخطوط السلالية الآتية:
- B  بنسبة 15.2 % و أكبر تركيز له هو في قبيلة الباكا بالكاميرون حيث يبلغ 63%  بينهم
- E1b1b   بنسبة 21.2% و أكبر تركيز له هو بالقرن الأفريقي و شمال أفريقيا
- J   بنسبة 45.5% و أعلى تركيز له هو بالجنوب الغربي لشبة الجزيرة العربية و جنوب أوروبا
- R1b  بنسبة 15.2% و أعلى تركيز  له يقع بغرب أوروبا و مناطق من روسيا
أما السلالات الأمومية بالسودان فحسب دراسة حديثة يعود الجزء الأكبر منها لسلالات أفريقيا جنوب الصحراء 72.5% مع مساهمات آسيوأوروبية 22.5% و شرق أفريقية 4.9%.

ختاما ..
كاتب هذه السطور ينتمي لإثنية المحس من سكان توتي و قد قمت بعمل فحص جيني سلالي و آخر خاصا بالتركيب الإثني لتتبع مسار هجرات الأسلاف و توزيعهم الجغرافي، كانت النتيجة أن خط السلالة الأبوية J-PF4638  و السلالة الأمومية R0a2c يتماشى مع أصل بعيد ظهر بشبه الجزيرة العربية جنوبا، أما التركيب الإثني فكان 56% أفريقيا موزعا على شرق و وسط أفريقيا مع قليل من جنوبها و غربها ، بينما البقية 44% فكانت شرق أوسطية موزعةعلى الهلال الخصيب و مصر و شمال غرب أفريقيا و قليلا من هضبة الأناضول.

هذه النتيجة تكشف مدى التعقيد البيولوجي و التاريخي و الجغرافي لما يكون هوية المرء و تكشف تجذره في كل البشرية و في تاريخ هجراتها و ممالكها القديمة مما يوسع الآفاق من وراء السجون الضيقة للسمات الشكلية و الثقافة المحلية و اللغة السائدة نحو إنفتاح أرحب لعالم حديث بلا حدود نكون فيه بشرا فقط في الأساس ذوي وحدة بيولوجية عميقة.


السبت، 29 أغسطس 2015

نقد لفيديو منتشر حول أن التطور مجرد إيمان أعمى لا علم



تلقيت عددا من الطلبات للتعليق على هذا الفيديو الذي شاهدته قبل سنوات و رغم أنني لا أكاد أذكره لكني إستغربت جدا من إفتتان الناس به لسبب ما، و حين شاهدته قبل قليل عرفت لم راودني ذلك الشعور المزعج لأنه كاد يسبب لي القياء أول مرة من إبتذاله و سخفه !
و لكن رب ضارة نافعه، ففعلا لابد من وضع النقاط فوق الحروف حول أسباب التحير و التلاعب التي يمرر عبرها المنتج البارع رسالته المغلوطة وسط الناس، و باديء ذي بدء لابد من القول بأن إستجابات المشاركين في الفيديو تتراوح بين سذاجة الرد و المفاجأة بسخف الأسئلة لدرجة الذهول الذي يعرض كوجوم العاجز بالإضافة لتقنيات التقطيع و إبتسار الإجابات حتى تقول ما يريده المنتج لا ما قاله حقا المشاركين في اللقائات !
عموما هناك ثلاثة مغالطات أساسية تقوم عليها حجج الفيديو:
1) التغير بالإنتخاب الطبيعي هو مجرد "تكيف" و ليس تطورا داروينيا
2) التغير التدريجي بين الأنواع species لا يعتبر تطورا داروينيا بل هو التغير بين الفصائل فقط between kinds
3) الطريقة العلمية تقوم على المشاهدة و الرصد في الحاضر حصرا
و لنقم بالتفصيل في كل محور من هذه المحاور الثلاث ..

1) التكيف و التطور و الإنتخاب الطبيعي:
هذه الحجة هي أهم نقطة أود التركيز عليها لأنها حقا جوهرية في كل ما يرفضه المعارضون عادة عن التطور، فالأمثلة "المشهودة" الواضحة للتكيف adaptation بواسطة الإنتخاب الطبيعي natural selection تعرض أو تفهم من قبل الكثيرين كما حاول هذا الفيديو تسويقه بالضبط : قدرة طبيعية للتكيف مع البيئة يملكها الكائن الحي و لا تعلق لها بالتطور الدارويني !
الحقيقة هي أن التكيف _الذي نعرف له آلاف الأمثلة حرفيا في الطبيعة و في المختبر_ إنما هو تطور دارويني بإمتياز يقوم حصرا على ثلاثة أعمدة : التباين الوراثي genetic variation الناتج عن الطفرات العشوائية، الإنتخاب الطبيعي للجينات التي تنتج صفات تزيد من النجاح التكاثري ، سيادة الصفات المتكيفة عبر أجيال عدة في مجموعة population من الكائنات و ليس في فرد واحد.
المثال الكلاسيكي هو عنق الزرافة، فالتكيف _كما تقول به الحجة الداحضة_ يفترض أن محاولة الزرافة للوصول للأغصان العالية سببت تمددا طفيفا في عنقها و أن هذا التمدد تم توريثه للأبناء الذين أضافوا تمددا طفيفا بدورهم حتى وصلنا للطول الحالي للزرافة و كذا نفسر كل التكيفات للكائنات في بيئاتها !! هذا بالطبع هو التطور اللاماركي (المنسوب للعالم لامارك) الذي أثبت العلم خطئه البائن فالصفات المكتسبة لا تورث عبر الجينات ! و بغض النظر عن أي تصور آخر لآلية التكيف المزعوم فالواقع العملي و العلمي قد أوضح بما لا يدع مجالا للشك في أن التكيفات البسيطة هذه تحدث عبر آليات التطور الدارويني لا غيرها من تصورات.
السيناريو التطوري يعمل كالآتي : في مجموعة من الزراف يكون هناك تباين عشوائي في جينات طول العنق بحيث يكون هناك أعناق أطول و أقصر من المتوسط، و بطبيعة الحال يكون للزراف الأطول عنقا ميزة نسبية في الوصول للغذاء الشيء الذي يجعلها أنجح في التكاثر و توريث هذا الطول النسبي لأبنائها بينما يقل عدد أبناء ذوات العنق القصير لنقص الموارد الغذائية المتاحة لها عبر التنافس، ثم عبر أجيال عديدة يتم "إنتخاب" ذوات الأعناق الأطول فالأطول عبر الزمن و تسود جيناتها في المجموعة لينتج الزراف الحالي طويل العنق في نهاية المطاف.
كما هو واضح فإن هذا "التكيف" يحمل كل خصائص التطور الدارويني بإمتياز ! و لا يمكن عزوه إلى "مجرد تكيف" غير دارويني إطلاقا بل و هو يتميز بإسم هو التطور الصغري microevolution و الأدلة عليه لا حصر لها فعلا ! لذا فمن المهم أن يدرك الجميع أن ما يثير السخط عادة في نظرية التطور (العشوائية و الإنتخاب) هو شيء مثبت فعلا كحقيقة علمية مشاهدة كما يريد أصحاب الفيديو بغض النظر عن موضوع أصل الأنواع و إستلالها من بعضها البعض عبر الزمن الجيولوجي الطويل.

2) الإستنواع Speciation و التطور الكبير MacroEvolution:
هنا يبدع منتجو الفيدو في إعداد مغالطة ماهرة لا فكاك منها ! حيث يعيدون تعريف المفاهيم بما يناسب غرضهم الذي هو ليس الحقيقة على كل حال ! فبالتعريف يستغرق حدث الإستنواع أي ظهور نوع جديد من نوع آخر آلاف بل مئات الآلاف لملايين السنين ! و بالتعريف يكون التغير بين نوع و آخر طفيفا جدا فلا يمكن خروج إنسان من سمكة مثلا بخطوة واحدة بل يكون النوع الناتج قريب الشبه بالنوع السابق له بحيث ينتميان لنفس الفصيلة ولابد !
فإذا أخذنا هاتين الحقيقتين بالإعتبار نجد أن هناك طلبا متكررا بالفيديو لا يمكن فهمه أبدا إلا كفخ لصيد الجاهلين بما تقوله النظرية حقا (من المشاهدين) و هو :  إذكر مثالا مشاهدا للتطور بين فصيلة و آخرى؟ فكيف يمكن أن يشير المرء لحدث مشاهد في الـ 150 سنة التي هي عمر النظرية لشيء يستغرق ملايين السنين ليحدث بالتعريف؟ أيكون العجز عن الإشارة لمثال كهذا إفحاما للمسئول أم أنه مجرد مغالطة سخيفة ستتضح في الجزء الثالث من نقدي هذا حين أوضح لم كان السائل يقاطع المتحدثين و يحجب شرحهم للطريقة العلمية حقا ! و من ناحية أخرى كيف يمكن أن يتجاهل السائل أمثلة الإستنواع speciation التي ذكرها المتحدثون حقا بحجه غريبة و هي أن السمك بقى سمكا و الطيور بقيت طيورا !! التطور الدارويني بالإنتخاب الطبيعي تدريجي بالتعريف أي أن النوع المنبثق عن سابقه سيكون من نفس فصيلته قطعا و لن تظهر الفروقات الكبيرة إلا عبر ملايين السنين كالفرق بين الإنسان و الشمبانزي مثلا ! السائل يفرض تعريفا من عنده للتطور يقول بأن التطور يتم بخطوة واحدة يمكن مشاهدتها بين فصائل متباعده و يطالب المسئولين بذكر أمثلة لو أنها موجوده  فستهدم النظرية من أساسها ! و حين يستغربون من طلبه هذا يقطع الفيديو ليوحي بالباطل بعجزهم عن الإجابة عن سؤال لا إجابة له أصلا و لا يصح !! فغاية ما يمكن ذكره هو أدلتنا غير المباشرة على التطور الكبير و الأمثلة التي نشاهدها اليوم لأنواع قريبة الشبه من بعضها نظن أنها تفرعت لتوها من بعضها و هذا بالضبط ما يرفضه أصحاب الفيديو دون منطق علمي يبرر هذا الموقف العجيب !

3) الطريقة العلمية و كيف نعرف عبر العلم:
هناك رسالة خبيثه بالفيديو مفادها أن العلم هو رأي العين فقط ! أن الطريقة العلمية تقوم حصرا على المشاهدة و الملاحظة للحقائق لا غير و أن ما لا يمكن رصده و هو يحدث غير علمي بل إيمان غيبي فقط !!
باديء ذي بدء لابد من ملاحظة أن المشاهدة و الرصد كانا لآلاف السنين يدعمان تماما نظرية أن الأرض ثابته و تدور حولها الشمس و أنها مسطحه بلا لبس و أن السماء فوقها كالقبة الزجاجية !! فمن أبجديات فلسفة العلوم أن الإستنتاج من المشاهدات هو العلم و ليس للملاحظات في حد ذاتها مجرده من إطارها التفسيري أبدا ! 
فمثلا حين ينقل لك مئات الأشخاص نفس الوصف بالذات لحفل حدث في الماضي بحيث لا يكون أيا منهم قد إلتقى أبدا بالآخرين ثم أن تجد آثارا متوافقه تماما مع حفل قد تم في نفس المكان بنفس الحجم الذي وصفه جمع الأشخاص ثم تجد ملصقات قديمة تعلن عن ذلك الحفل في الماضي فأنت هنا في موقع تأكد من حدث الحفل بأكثر مما لو شاهدته بأم عينك لأنك قد تكون متوهما في تلكم الحالة !!
بإختصار الأدلة على التطور الكبير التي يحاول الأشخاص بالفيديو شرحها للسائل تماثل محاولة شرح أدلة الحفل أعلاه و تخيل لو قاطعك السائل حينها بسخافة ليسئلك : و لكن الحفل كان في الماضي و لم تشاهده أنت أليس كذلك ؟ و حين تجيب بالطبع تجده يعلن إنتصاره عليك بأنك لا تملك دليلا موضوعيا (علميا) للإعتقاد بحدوث الحفل ما دام الحال كذلك !!
الأدلة الإحفورية و الجينات و التوزع الجغرافي و التشريح المقارن و علم النمو و غيرها تتآزر لتحكي حدث التطور الكبير و كونه بالتعريف مما لا يمكن رصده مباشرة لن يخرج به من العلوم و لا من الطريقة العلمية لأن هناك العديد و العديد من التنبؤات و التوقعات التي تتطلب الإتساق تماما مثل الأشخاص بقصة الحفلة و آثارها و ملصقاتها بحيث أن أي إختلاف في الرواية ستشكك علميا في حدوثها ! و حين تتسق القصة التي تحكيها الأدلة بجمال فمن المبرر تماما أن تبصم على أن الحفل قد حدث فعلا و إن لم تحضره أنت شخصيا !!
كيف عرفنا تكون الأرض و الشمس من السدم الغازية و كيف عرفنا التاريخ في خطوطه العريضة و كيف نعرف الجزء الأكبر من معارفنا العلمية إن لم يكن عبر الطريقة العلمية التي يستحيل معها الرصد المباشر كما يطالبنا بصفاقة أصحاب الفيديو لحاجه في نفس يعقوب ؟؟ من المثير تقبل الناس لهذا الهراء في كنس تام لكل المعارف البسيطة حول طريقة عمل العلم و تصديق التعريف المبتسر الذي تم تقديمه في الفيديو السخيف !!!

ملحوظات ختامية:
- أكاد أجزم بأن هناك طلابا لم تعرض مشاركاتهم قد قالوا نفس كلامي هذا و بأن الأساتذه قد قالوه بلا ريب و لم يظهر في النسخة النهائية التي عرضت فيها فقط مجموعة لا شغف لها فعلا بما تدرسه من علوم بحيث تعجز عن الإجابة عن أسئلة سهلة كهذه.

- الثقة في الخبراء ليست تصديقا أعمى بل هو ثقة في الطريقة العلمية عبر النشر و النقد في المجلات العلمية و تمحيص الدليل من قبل مجموعات مختلفة لا علاقة لها ببعض بل تتنافس بشراسه فيما بينها، و تؤكده التكنولوجيا التي تقوم على نتائج هذه البحوث فلا يمكن أن تنجح إن لم تقم على أساس موضوعي و يكفي أن بروتوكولات علاج الإيدز مثلا تقوم على مباديء البيولوجيا التطورية !


الثلاثاء، 28 أبريل 2015

حول فتاوي تكفير النظريات العلمية - التطور مثالا

في الموقع المشهور إسلام ويب و تحت تصنيف الكفر الإعتقادي و العملي، بالفتوى رقم 4755
هذا مثال جيد للكتابات المعارضة للتطور في الدوائر العربية والإسلامية حيث ينقشع غبار التكفير عن جهل مدقع بالنظرية المراد نقدها و تحريف للكلم عن مواضعه لإنجاز ذلك النقد دينيا كما سنرى في التحليل التالي:
تبدأ الفتوى بالسؤال:
نظرية دارون التي تثبت بأن الإنسان تطور من القرد، أليست هذه النظرية تخالف الإسلام؟
و الملاحظ أن السؤال يستعيد سوء الفهم الشائع عن النظرية إذ أنها لا تقول بأن الإنسان تطور من قرد بل هي تقول بأنهما معا سلالة لسلف مشترك أقدم في الزمان، كما أن موضوعها ليس أصل الإنسان بل تفسير التنوع الأحيائي و من ضمنه الإنسان.
ثم يبدأ الجواب بنبذه عن دارون مقتبسه من الموسوعة العربية الميسرة التي ترتكب خطأ القول بأن دارون درس الطب دون الإشارة لأنه ترك دراسته بعد سنتين دون الحصول على درجة علمية لأنه لم يحتمل قساوة العلميات الجراحية من دون مخدر تلك الأيام !! و من جهة أخرى فالموقع يتعامل مع النظرية و كأنها فكرة فلسفية تخص دارون (بقولهم: نحب أن نعرف بصاحبها بإيجاز) بحيث يكون التعريف به من باب الإنصاف للخصم بينما التطور اليوم نظرية علمية فارقت تنظير دارون بكثير و لا تنسب له إلا من باب الإعتراف بالفضل التاريخي و ليس كرجوع لمصدر ثرائها الحالي.
ثم يبدأ عرضهم للنظرية ..
"أما نظرية دارون فقد قامت على عدة أمور منها
:
أن الإنسان ما هو إلا حيوان من جملة الحيوانات، حادث بطريق النشوء والارتقاء، وأنه لمشابهته القرد، لا يمنع أن يكون قد اشتق هو وإياه من أصل واحد
."
أولا هذه مجرد نتيجة للنظرية و ليست مما قامت عليه ! كما أن إستخدام مصطلح "النشوء و الإرتقاء" الخاص بفلسفة سبنسر المتعارضة مع نظرية التطور الداروينية و ليس مصطلح "التطور" العلمي يشي بما سيأتي من سوء فهم، و أخيرا فإن إنحدار الإنسان و القرود العليا من سلف مشترك لا ينتج من مجرد تشابهما كما توحي هذه الفقرة بل له أدلة جينية و حفرية و تشريحية و غيرها الكثير، فالإشارة للتشابه كأساس للجواز ليس إلا تشويها لما تقوله النظرية فعلا ليسهل نقدها.

"وقد شرح دارون عملية التطور، وكيف تمت، في عدة نقاط أهمها:
(الانتخاب الطبيعي) حيث تقوم عوامل الفناء بإهلاك الكائنات الضعيفة الهزيلة، والإبقاء على الكائنات القوية، وذلك يسمى بقانون (البقاء للأصلح) فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذريته، وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن، وذلك هو (النشوء) الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى كائن أعلى، وهكذا يستمر التطور وذلك هو (الارتقاء(
."
مصطلح "البقاء للأصلح survival of the fittest" صاغه الفيلسوف هربرت سبنسر في فلسفته عن "النشوء و الإرتقاء" حيث يعني بها ما ورد في هذا المقطع تماما و هو يتناقض مع ما تقوله نظرية التطور بالإنتخاب الطبيعي ! فالصلاح في النظرية هو تكيف مع البيئة يؤدي للنجاح التكاثري reproductive success الذي يورث للأبناء و لا يتعلق بالقوة و الضعف ! فالكائنات التي نجحت و تغلبت على الديناصورات القوية كانت مجموعه صغيرة من الثديات الضعيفة التي كانت متكيفة مع العيش في الظلام و قلة الغذاء بعد كارثة النيزك التي غيرت البيئة و قضت على الديناصورات ! و من ناحية أخرى فالتطور لا يقود لكائنات "أرقى" فهو ليس مبدئا حول "التقدم Progress" و إنما وصف لعلاقات قد ينتج عنها الأرقى أو الأدنى بالمنظور الإنساني، فمثلا فقد الخلد بصر عينيه مع بقائهما لإنعدام حوجته إليهما في نمط معيشته الجديد تحت الأرض، و فقد الإسفنج كامل التعقد و الرقي الذي ميز أسلافه القدماء، و إستمرت الأنيميا المنجلية القاتلة بالإنسان فقط لحمايتها له من الملاريا الأشد فتكا و الأمثلة لا تحصى عن أن التطور لا "يهدف" إلى الأرقى بل فقط الأكثر تكيفا مع بيئته الضيقة و الحالية دون رسم مسارات متقدمة من الرقي كما تقول فلسفة سبنسر التي تخلط دائما و أبدا مع نظرية التطور.

"وقد رد كثير من العلماء هذه النظرية وفندوها: يقول الدكتور (سوريال) في كتابه "تصدع مذهب دارون": إن الحلقات المفقودة ناقصة بين طبقات الأحياء، وليست بالناقصة بين الإنسان وما دونه فحسب، فلا توجد حلقات بين الحيوانات الأولية ذات الخلية الواحدة، والحيوانات ذوات الخلايا المتعددة، ولا بين الحيوانات الرخوة ولا بين المفصلية، ولا بين الحيوانات اللافقرية ولا بين الأسماك والحيوانات البرمائية، ولا بين الأخيرة والزحافات والطيور، ولا بين الزواحف والحيوانات الآدمية، وقد ذكرتها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية. انتهى.
كما قام كثير من علماء الطبيعة برد النظرية ومنهم (دلاس) حيث قال ما خلاصته: (إن الارتقاء بالانتخاب الطبيعي لا يصدق على الإنسان، ولابد من القول بخلقه رأسا) ومنهم الأستاذ (فرخو) قال: إنه يتبين لنا من الواقع أن بين الإنسان والقرد فرقاً بعيداً فلا يمكننا أن نحكم بأن الإنسان سلالة قرد أو غيره من البهائم، ولا يحسن أن نتفوه بذلك) ومنهم (ميغرت) قال بعد أن نظر في حقائق كثيرة من الأحياء: إن مذهب (دارون) لا يمكن تأييده وإنه من آراء الصبيان. ومنهم (هكسلي) وهو صديق لـ (دارون) قال إنه بموجب مالنا من البينات لم يثبت قط أن نوعاً من النبات أو الحيوان نشأ بالانتخاب الطبيعي، أو الانتخاب الصناعي. انتهى.
وغيرهم كثير تركنا ذكرهم للاختصار. "
في هذه الفقرة يلجأ الموقع للمغالطة المنطقية المعروفة "الإستنجاد بالسلطة Appeal to authority" فكون أن عالما مثلا يقول بشيء دون إثبات له على شكل بحث منشور فهذا لا يعني أي شيء في الإحتجاج، فمثلا كان آينشتين بجلالة قدره معارضا شرسا لنظرية الكم حتى وفاته و لم يقدح ذلك فيها قيد أنمله لأنه عجز عن إثبات رأيه هذا علميا ! و لكن في هذه المقارنة مبالغة بلا ريب لأن ما أورده الموقع من أسماء تعتبر مجهولة و لم أجد لها ذكرا ليتم التحقق من قائليها و مكانتهم العلمية و إنتاجهم أصلا، و من ناحية أخرى فإن تغاضينا للحظه عن كون أن هذه الحجة مجرد مغالطة منطقية و إحتججنا بها عليهم ثم نظرنا لعدد العلماء الذين يدعمون التطور و مكانتهم العلمية فسنجد أن "كل" الكليات العلمية المحترمة الكبرى بالعالم تدرس التطور و أن الغالبية العظمى من العلماء المحترمين الفائزين بنوبل و بالذات الأحيائيين منهم يدعمون التطور بقوة، بل إن مشروعا طريفا قام به المركز الوطني لتدريس العلوم بأمريكا إسمه مشروع ستيف يوضح هذه المسألة، حيث دعا العلماء الذين يسمون بـ ستيف للتوقيع على "عبارة statement" توضح دعمهم للتطور (تم إختيار الإسم تكريما لـ ستيفن جولد العالم التطوري المعروف، مع العلم بأن هذا الإسم يتسمى به 1% فقط من الأمريكان)، فكانت النتيجة حتى الآن أن 1366 عالما قد وقعوا أسمائهم ! المشروع طريف لأن هذه ليست الطريقة العلمية لحسم قضية علمية بل البحوث المنشورة و التجارب المحكمة التي تعد بمئات الآلاف في صالح التطور و لكنه تم فقط لئلا ينخدع الناس بالمغالطة المنطقية، فإن كانت طريقة عشوائية كهذه تنتج هذا العدد الكبير من العلماء فما بالك بالإحصاء الحقيقي !!، هذا و غني عن القول بأن أغلب الإقتباسات التي تزخر بها كتابات المعارضين ماهي إلا إقتطاعات مدلسه لا تمثل الرأي الحقيقي لأصحابها أو لأشخاص ليسوا مؤهلين كعلماء أحياء أو إقتباسات قديمة جدا لعلماء فارقوا الحياة و تجاوزتهم العلوم، فليس هناك من عالم له وزن و حي اليوم له أي بحث يعارض فيه نظرية التطور جملة و تفصيلا رغم الخلاف المعروف حول الآليات و الوسائل دون الحقيقة العلمية.

"ثم إن كلام (دارون) نظرية، وليست حقيقة أو قانوناً، فهي تحتمل التصديق والتكذيب، ومع ذلك فلا يؤيدها الواقع المشاهد إذ لو كانت حقاً لشاهدنا كثيراً من الحيوانات والناس تأتي إلى الوجود عن طريق التطور لا عن طريق التناسل فقط.
كما أن القدرة على التكيف التي نشاهدها في المخلوقات ـ كالحرباء ـ مثلاً، (تتلون بحسب المكان) هي مقدرة كائنة في تكون المخلوقات تولد معها، وهي عند بعضها وافرة، وعند البعض الآخر تكاد تكون معدومة، وهي عند جميع المخلوقات محدودة لا تتجاوز حدودها. فالقدرة على التكيّف صفة كامنة، لا صفة متطورة تكوّنها البيئة كما يزعم أصحاب النظرية، وإلا لفرضت البيئة التكيف على الأحجار والأتربة وغيرهما من الجمادات
"
هنا نجد الخلط المعتاد بين الإستخدام العامي لمصطلح "نظرية" الذي يعني التخمين و بين معناه في السياق العلمي الذي يعني "تفسير شديد التدعيم لظواهر طبيعية إستنادا على مجموعة من الحقائق التي تم تأكيدها مرارا و تكرارا عبر المشاهدة و التجارب المستمرة"، فالنظرية في السياق العلمي تضم الحقائق و القوانين مثل نظرية الجاذبية التي تضم حقائق كتجاذب الأجسام و قوانينا مثل تناسب الجذب عكسا مع مربع المسافة و مثل نظرية الجراثيم و مثل نظرية الموائع التي تعتمد عليها الطائرات !! و أما جزئية الإحتجاج بظهور الناس و الكائنات تطوريا فيبدو أنها ناجمة عن تصورهم لتطور الكائنات الحالية من بعضها ! فتكون الأنواع الجديدة من بعضها عملية تستغرق ملايين السنين فكيف يلحظها الإنسان و عمره لا يتجاوز ربع ألفية (250 ألف سنة) فقط على سطح الأرض !
أما التكيف و علاقته بالبيئة فيكشف مرة أخرى الفقر المدقع في فهم أبجديات النظرية ! فالتكيف يتم عبر التنوع الوراثي و تنتخب الصفات التي تحسن من النجاح التكاثري فالبيئة هنا ليست فاعلا يؤثر على الكائنات ليسأل عن تأثيره في الحجر بل إن تفاعل الكائنات التي تتنوع صفاتها من جيل لآخر مع البيئة المتغيرة هو الذي يصوغ مسار التغير فيها.
فإن كانت حصيلة الإستعراض العلمي للنظرية و الإحتجاج عليها بهذا البؤس و الفقر فليس أقل من أن يكون الجزء الثاني من الفتوى المتعلق بالإحتجاج الديني عليها جيدا بإعتباره يدخل في تخصص الموقع و ليس من العلوم الصعبة الفهم عليهم، أقول يظن المرء هذا حتى ترى المعيدي الذي تسمع عنه خيرا كثيرا !

"أما موقف الإسلام من هذه النظرية فنوضحه في نقاط:
1_
قولهم إن الطبيعة هي التي تخلق عشوائياً وإن الإنسان ليس له خالق مصادم للقرآن الكريم لقوله تعالى: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) [الزمر: 62].
ولقوله: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر: 49] إلى غير ذلك من الآيات. "
النظرية لا تقول بهذا أبدا بل هذا من قول الملحدين الذين يستغلون جهل المتدينيين بالنظرية لتمرير أجندتهم و هذا شبيه بالقول بأن عشوائية نزول المطر (أي عدم القدرة على التنبؤ الكامل به) تعني أنه ليس له خالق ! النظريات العلمية تكون صامته حول النقاط الفلسفية مثل الخلق و الغايات فوظيفتها هو توضيح الكيفيات فقط لا غير.

"ادعاؤهم معرفة كيفية نشأة الأحياء على الأرض يرده قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم) [الكهف: 51[ "
أولا النظرية لا تتحدث عن كيفية نشأة الأحياء بل عن تطورها أي أنها تعلق لها بنظريات نشأة الحياة، و ثانيا و هو الأهم فهذه الآية تتحدث عن إبليس و ذريته في معرض نفي أن يكون لهم شرك في الخلق و ليس كنفي لإمكان معرفة بدء الخلق، فالآية تقول في سياقها :" وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)" سورة الكهف، تحريف الكلم عن مواضعه هكذا يضرب القرآن ببعضه فيتناقض هذا الفهم مع الآية الواضحة :"  أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20(" سورة العنكبوت، التي تقول بوضوح أن للخلق بداية يمكن معرفتها !

"ولقد أخبرنا الله سبحانه أنه خلق الإنسان خلقاً مستقلاً مكتملاً، وقد أخبر ملائكته بشأن خلقه قبل أن يوجده فقال: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) [البقرة: 30[ .وحدثنا عن المادة التي خلقه منها، فقد خلقه من ماء وتراب (طين) (فإنا خلقناكم من تراب) [الحج: 5[. وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تبارك وتعالى: خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزْنُ، والخبيث والطيب" أخرجه الترمذي وأبو داود والماء عنصر في خلق الإنسان (والله خلق كل دابة من ماء) [النور: 45[،وقد خلقه الله بيديه (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ) [ص: 75[، وهذا الطين تحول إلى صلصال كالفخار (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) [الرحمن: 14[ "
كل هذه الدلائل لا تدل على الخلق المستقل ، فجعل الخليفة يكون بالإختيار من مجموعة بشرية موجودة مسبقا كما تقول الآية :"  يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ (26(" سورة ص، و الخلق من تراب أو أي عنصر آخر لا يعني التكوين منه مباشرة فكلنا خلقنا من تراب و خلقت منا أزواجنا أي من نوعنا البشري كما تقول الآية :" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21(" سورة الروم، و الخلق باليد ليس خاصا بالإنسان :"  أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)" سورة يس، و الخلق من طين و صلصال تم على مراحل :" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12(" سورة المؤمنون، "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)" سورة السجدة، "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)" سورة الأنعام.  فليس في كل هذه الآيات ما يدل على الخلق المستقل بل إن تفسير القرآن بالقرآن يتماشى مع الخلق المتدرج أكثر من دلالته المفترضه على قصة الخلق التوراتية.

"والإنسان الأول هو آدم عليه السلام، ولم يكن خلق الإنسان ناقصاً ثم اكتمل كما يقول أصحاب نظرية التطور! بل كان كاملاً ثم أخذ يتناقص الخلق، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله آدم عليه السلام وطوله ستون ذراعاً"، ولذلك فالمؤمنون يدخلون الجنة مكتملين على صورة آدم ففي بقية الحديث السابق "فكل من يدخل الجنة على صورة آدم" ثم يقول صلى الله عليه وسلم: "فلم يزل ينقص الخلق حتى الآن". 
أولا نظرية التطور لا تقول بأن أسلاف الإنسان كانوا ناقصين بل كانوا في تمام التكيف مع بيئاتهم و لا تتحدث النظرية عن نقص و إكتمال أو بدائية و رقي فهي فقط تصف كيفيات الخلق و لا تحكم عليه. ثانيا فحديث الآحاد الوارد هنا هو بتمامه :" خلق الله عز وجل آدم على صورته ، طوله ستون ذراعاً ، فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يجيبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك ، قال فذهب فقال السلام عليكم ، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله ، قال : فزادوه ورحمة الله . قال : فكل من يدخل الجنة على صورة آدم ، وطوله ستون ذراعاً ، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن" متفق عليه، و هو تعتوره مشاكل كثيرة في المتن نوقشت كثيرا بين علماء الحديث بين منكر و متأول و تتعلق بجزء :"خلق آدم على صورته" أما طول آدم و ذريته من بعده فمستحيل فيزيائيا إذ تتكسر العظام مع طول كهذا مع التركيب التشريحي للإنسان و هذا أمر مثبت بمعادلات الميكانيكا ، كما أن القياسات المتوفرة للقرون الماضية و للهياكل العظمية من عشرات آلاف السنين و معارف الفسيولوجيا و جينات الطول كلها تتفق على أن الإنسان إزداد طولا عبر تاريخه القريب مع توافر الغذاء و تنوعه ! فالمتن لا يمكن أن يصح رغم ثبوت السند و لعله من وهم الرواة في الرواية عن أبوهريرة أخباره عن كعب الأحبار كما نبه مسلم بن الحجاج في كتابه "التمييز" ص 128:" حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، حدثنا مروان الدمشقي، عن الليث بن سعد، حدثني بكير بن الأشج، قال: قال لنا بسر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

"قولهم بأن البقاء للقوي والكوارث هي سبب هلاك المخلوقات الضعيفة مردود بأن الموت يكون للأقوياء والضعفاء قال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) [الملك: 2["
بل تقول النظرية أن البقاء للأكثر تكيفا و تاريخيا كان هذا هو الأضعف كما هلكت الديناصورات لتعيش الثديات، و عموما فالإستدلال بالآية ضعيف جدا فلا يمنع كون أن الكوارث هي سبب هلاك البعض أن يكون ميتا في النهاية !

"أخيراً نذكر بالأصل العظيم الذي يبطل هذه النظرية وهو تكريم الله لبني آدم الذي لا يتناسب مع ردّ أصل الإنسان إلى قرد: قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) [الإسراء: 70]. وقال: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) [التين: 4["
هذا هو السبب الأساسي لرفض النظرية رغم التستر خلف الدين ألا و هو الغرور الإنساني الذي يريد مكانة متميزة رغم أن أصله من تراب و هو أقل رفعه بما لا يقاس من إنحداره من أسلاف حية معقدة ! و كالعادة آية التكريم لا تتعلق بمسألة الخلق المتدرج فلا يوجد ما يمنع الإصطفاء و التكريم مهما تكن الإصول.   ثم أن آية أحسن تقويم لا تتعلق بكيفية خلق الإنسان بل بنتيجتها إن فسرناها كآية متعلقة بالخلقه بالذات أن ما بعدها مباشرة آية تقول :" ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ" مما لا يبيح إستخدامها كإستدلال لعملية الخلق المباشر.

هذا بإختصار مجمل عورات هذه الفتوى التي لا تستند على ساقين، فلا هي تفهم العلوم لتقيم حجة نقدها على ساق قوية و لا هي تستشهد من النصوص بمحكمات تقيم ساقها الثانية، فما لها إذن إلا أن تهوي داحضة بلا ريب.

السبت، 11 أبريل 2015

تشابه المخلوقات و التطور و شياطين أخرى

سلسة الوجود العظيمة
منذ زمن أرسطو و أفلاطون كانت هناك فكرة مغرية لا تزال تعيش بأشكال مختلفة حتى يومنا هذا، سميت باللاتينية scala naturae : سلم الطبيعة، كانت هذه الفكرة من أولى المحاولات المعروفة لتصنيف الكائنات الحية في نظام طبيعي تمت صياغته بتأثير من الهرمية الإجتماعية في الغالب، حيث يترتب الوجود متدرجا من الجماد فالنبات فالحيوان فالإنسان فالمقدس. كانت هناك أيضا أفكار أخرى لم يكتب لها الإنتشار أيامها مثل تصور الفيلسوف الإغريقي القديم أناكسيماندر عن كون بدأ بفراغ غير متشكل ثم غمره الماء لتخرج النباتات و الحيوانات من الطين ثم يخرج الإنسان متأخرا من الأسماك التي حملته في الأزمان القديمة!
 نجد أصداء فكرة التسلسل الطبيعي في الحضارة الإسلامية لدى مفكرين مثل ابن مسكوية و أخوان الصفا و ابن خلدون مع إضافة مهمة جدا: ألا و هي فكرة التشابه المفضي للتطور بين الكائنات ! يقول ابن خلدون في المقدمة: "" اعلم أرشدنا الله وأياك , أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والأحكام , وربط الاسباب بالمسببات , واتصال الأكوان بالأكوان , وأستحالة بعض الموجودات الى بعض , لا تنقضى عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته , وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني , وأولا عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض الى الماء , ثم الى النار متصلاَ بعضها ببعض . وكل واحد منها مستعد الى أن يستحيل الى مايليه صاعداً وهابطاً ويستحيل بعض الوقت , والصاعد منها ألطف مما قبل الى أن ينتهي الى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها الا الحركات فقط , وبها يهتدى بعضهم الى معرفة مقاديرها وأوضاعها وما بعد ذلك من وجود الذوات التى لها هذه الأثار فيها . ثم انظر الى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج . أخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لابذر له , وأخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف , ولم يوجد لهما الا قوة اللمس فقط . ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن أخر كل أفق منها مستعد بالأستعداد القريب ( الطبيعي ) لأن يصير أول أفق الذي بعده , واتسع عالم الحيوان وتعددت انواعه , وانتهى في تدريج التكوين الانسان صاحب الفكر والرويه , ترتفع اليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والادراك ولم ينته الى الروية والفكر بالفعل , وكان ذلك أول أفق من الانسان وبعده . وهذا غاية شهودنا "
كانت هذه الفكرة ساحقة الإنتشار عبر التاريخ تغذيها التشابهات الواضحة بين الأنواع الحية المشاهدة، حتى أن أوائل محاولات التصنيف البيولوجي بواسطة لينياس 1737م قد تأثرت بها في تصنيفه الثلاثي لممالك المعادن و النبات و الحيوان، ثم زاد الطين بله أن العالم الجيولوجي البريطاني شارلس لايل عام 1851م قد إستعملها كتمثيل لعموده الجيولوجي ثم سمى فقدان بعض الطبقات فيه بمشكلة "الحلقة المفقودة Missing link" ، هذا المصطلح الجديد الذي نتج مباشرة عن فكرة سلسلة الوجود ليلتصق من بعد بفكرة التطور البيولوجي لاحقا.

وحدة التصميم، وحدة الصانع
كانت الأفكار القديمة حول التشابه التي أنتجت أفكار ترتيب الكائنات في سلسلة متدرجة تقوم على الشكل الظاهري و الأنواع البسيطة المشاهدة آنذاك من الكائنات (كان لينياس مقتنعا بأنه قد قام بتسمية كل المخلوقات الحيه في عمله الذي إحتوى على عشرة آلاف نوع حي بينما نعرف اليوم أن الأنواع الحية اليوم تقدر بـ 8.7 مليون نوع تقريبا !)، و لكن مع تقدم علوم البيولوجيا و التشريح تحديدا ظهر نوع آخر مهم من التشابه لم يكن من الممكن ملاحظته سابقا.
في العام 1848م نحت عالم التشريح الإنجليزي ريتشارد أوين مفهوم التشابه البنائي Homology  ليفسر ظاهرة محيرة و هي وجود نفس العضو بالذات في مخلوقات مختلفة بأشكال و وظائف شديدة التنوع ! المثال الكلاسيكي لهذا المفهوم هو أطراف الثديات:


فبرغم الإختلاف الشديد بين زعنفة الحوت و جناح الخفاش و رجل القط و يد الإنسان  في الشكل و الوظيفة إلا أنها جميعا تتمتع بتناظر ماثل للعيان يجعل من هذا العضو عضوا ذا تشابه بنائي بائن Homologous structure. كان التفسير الذي قدمه أوين لهذه الظاهرة هو أن هناك تصميما مسبقا Blueprint للكائنات و أنه يدل على وحدة الصانع.

بالطبع كان معروفا أن هناك تشابهات عديدة بين الكائنات الحية قبل إشتقاق مفهوم التشابه البنائي، و كانت تعرف بـ المماثلة Analogy مثل الشكل الإنسيابي و الزعانف لكل من الدولفين و القرش ، لكن مع تطوير مفهوم المشابهة Homology صار لمفهوم المماثلة Analogy معنى جديدا، يقول أوين :"المماثلة هي وجود عضو له نفس الوظيفة أو الشكل" ، و مع ظهور البيولوجيا التطورية لاحقا صار مفهوم التشابه البنائي هو الأساس و إضمحل مفهوم المماثلة في المفهوم الأكبر للتطور المتلاقي Convergent Evolution كما سنرى لاحقا.


المهم هو أن المماثلة هي الشبه الظاهري في الشكل أو الوظيفة بينما التشابه البنائي لا يتعلق بهما معا، كما في المثال الواضح لأوراق الشجر هذه التي تختلف تماما في الشكل و الوظيفة ثم تكون متشابهة بنائيا Homologous  بسبب من أنها نفس العضو بالذات تصميميا.



ففعلا إذا تأملنا من حيث ننظر الآن Hindsight لفكرة المماثلة لوجدناها ضعيفة الدلالة لوحدها على تقرير أي علاقات relations بين الأشياء (مثل تدرجات سلسلة الوجود العظمى)، إذ أن هناك العديد من التشابهات و الإختلافات أيضا بين المخلوقات فكيف لنا أن نرتبها بطريقة موضوعية غير تحكمية مادمنا ننظر إلى مجرد مماثلات غير معروفة الأسباب ؟

البيولوجيا التطورية و علاقات القربى
في المثال الأشهر لملاحظات دارون في رحلته المشهورة بالسفينة بيغل ألا و هي طيور جزر جلاباجوس نجد بداية النظرية التطورية لدارون، كان العالم المغمور حينها يرفض الأفكار التطورية بعصره التي تلقى معارضة شديدة من كبار علماء عصره (نظريات لامارك و شامبرت و قرانت و سان هيلاري) و كان تفكيره محصورا بفكرة "مراكز الخلق" للعالم لايل التي تقول بأن كل نوع خلق في بيئة جغرافية معينة ثم إنتشر منها و أن من واجب العالم أن يستنتج من الخصائص الجسمانية للأنواع الجديدة المكان الخاص الذي خلق فيه النوع المحدد.


لا أود هنا إستعراض التفكير الذي قاد دارون لتغيير نظرته و التوصل لنظريته الخاصة في الإنتخاب الطبيعي و الأصل المشترك للأنواع، و إنما ملاحظة أن تفسير دارون اللاحق للتشابه الكبير بين طيوره مع الإختلاف البائن في شكل منقارها المناسب تماما لطبيعة غذائها المختلفة من جزيرة لأخرى قد أقنعته بأن هناك فرضية بسيطة يمكنها تفسير التشابه و الإختلاف كالآتي:
في البدء كان هناك نوع واحد من الطيور على جزيرة واحدة، ثم هاجرت بعض المجموعات لجزر أخرى، و بسبب من إختلاف نوعية الغذاء المتوفر بكثرة من جزيرة لأخرى فإن شكل المنقار عبر الأجيال المتلاحقة قد إختلف من جزيرة لأخرى ليتناسب مع طبيعة الغذاء المختلفة.
فإذا طبقنا هذه الفكرة البسيطة على مفهوم التشابه البنائي Homology فسنجد تفسيرا بسيطا و قويا له : الحيوانات التي تتشابه بنائيا Homologous لها سلف مشترك واحد في القدم إمتلك تلك الصفات البنائية باديء الأمر ثم تحورت عبر أجيال أحفاده حسب البيئة الخاصة بكل مجموعه Population حتى صار هناك فروق ظاهرية كبيرة بينهم رغم أصلهم المشترك الواحد !
أما الصفات المتماثلة Analogous  بين الكائنات التي لا تحوز تشابها بنائيا فيما بينها فيمكن تفسيرها أيضا بسهولة بنفس آلية تكيف المناقير في الجزر المختلفة، فإن هاجرت مجموعات أخرى من الطيور إلى جزيرة معينة مثلا فمن الواضح أن نفس العوامل التي تحورت تحت ضغطها طيور دارون ستعمل على الطيور الجديدة إن كانت تتغذى على نفس الحبوب بحيث تتشابه مناقيرها مع المناقير الخاصة بطيور دارون في تلك الجزيرة بالذات، بهذه الطريقة سينتج تشابه وظيفي دون أن يكون هناك علاقات قربى و لا تشابه بنائي بين الأنواع المتماثلة.

شجرة الحياة
الفكرة المركزية الأقوى للنظرية التطورية هي الوحدة المركزية للحياة على الأرض. أحد الأسباب المهمة لسوء الفهم الشائع لها هو إستمرار الأفكار القديمة في الحياة بثقافة عصرنا بسبب من الصراع الذي رافق نظرية دارون منذ مبتدئها، فبرغم أن التطور يحتم فكرة أن الكائنات تترتب في شكل شجري متفرع Tree of Life يعكس علاقات القربى الرحمية لبعضها البعض ، ألا أن الفكرة الشائعة لسلسلة الوجود إستمرت بالحياة في زمن دارون و ما بعده بفضل كتابات إرنست هيكل 1874م التي أشاعت فكرة أن التطور الداروني يقول بتطور الأنواع المشاهدة حاليا من بعضها البعض !! و لا تزال الفكرة الخاطئة التي تقول بتطور الإنسان من القرود شائعة بعصرنا كسوء فهم للنظرية التطورية.


عودة للسؤال المركزي حول كيفية التفريق بين الصفات ذات التشابه البنائي Homology و تلك التي تعود بمجرد المماثلة الوظيفية Analogy ؟ فبأي طريقة يمكننا أن نعرف متى نستطيع تطبيق فكرة القرابة الرحمية و الأصل الواحد لتفسير التشابه ؟
هنا نجد أن تحليل مجموع الصفات المشتركة يقدم بنفسه حلا مدهشا للمعضلة، فإذا درسنا الصفات المختلفة (المورفولوجية/الظاهرية و الجينية و السلوكية) للكائنات المختلفة فسنتجاوز الكثير من معضلات الإعتماد على صفة بعينها، بحيث يتم رسم شجرة العلاقات بين الكائنات إعتمادا على الصفات المختلفة التي تجمعها فيما يعرف بالـ Cladistic analyses لإستنتاج الصفة المشتركة Shared trait التي ورثتها عن سلفها المشترك.


فهكذا مثلا تكون للقروش و السحالي صفة مشتركة هي العمود الفقري الذي يعبر عن التشابه البنائي بينما يكون وجود أطراف limbs لكل من السحلية و الأخطبوط مماثلة وظيفية فقط (طرف للحركة) لأن طرف الأخطبوط لا ينتج عن سلف مشترك مع أقربائه بل هو صفة مشتركة مشتقه Derived Shared Trait .

مثال آخر هو الشجرة التطورية للزواحف و الطيور، فبينما يبدو ظاهريا أن التمساح و السحلية مثلا أقرب لبعضهما إلا أن تحليل كامل الصفات يجعلها أقرب للطيور من السحالي، بل يضع الطيور كذلك في علاقة مباشرة مع الديناصورات المنقرضة بإعتبارها آخر فصائل الديناصورات الموجوده اليوم !! و فعلا فالتحليل الجيني اللاحق أثبت متانة هذا التحليل التركيبي و صحته !


التشابه في أمكنة غير متوقعه
إذا فالمنطق التطوري لا يستدل من التشابه على الأصل الواحد بقفزة واحدة في المجهول و إنما يقيم فرضيات يفسر بها نمط التشابهات البنائية الملاحظ و يتبعها بتنبؤات معينة معروضة للتحقق التجريبي. و بما أن فرضية الأصل المشترك لا يمكن التحقق منها مباشرة إلا بواسطة آلة زمانية تعيدنا لمشاهدة ما حصل بأعيننا فإن أفضل ما يمكن هو أن تتضافر الأدلة المستقلة من طرق بحثية مختلفة على نفس النتيجة بالذات ألا و هي الترتيب الشجري للكائنات في دوائر قربى متداخلة Nested Hierarchies


و هذا التطابق بين الأدلة المستقلة عن بعضها هو بالضبط ما زودتنا به المعارف الجينية الحديثة كما سنرى في الفقرة القادمة، و لكن الآن فلنستعرض وجه شبه غريب و مذهل من التطور الجنيني Embryological Development . لكن أولا فلنستعرض سوء فهم شائع كذلك عن دلالة التطور الجنيني على التطور البيولوجي للأنواع.
البطل المسئول عن سوء التفاهم هذا هو العالم هيكل كالعاده ! بنظريته التي لخصتها العبارة الشهيرة Ontogeny recapitulate Phylogeny أي النمو الجنيني يعيد تمثيل التاريخ التطوري، فقد ظن هيكل من ملاحظاته لتطور الأجنة المختلفة بأن كل حيوان يمر جنينيا عبر نفس الأشكال البالغة تقريبا لمن شارك معهم أسلافا مشتركة !! فيكون جنين الإنسان مثلا سمكة فبرمائيا فزاحفا فطيرا ثم إنسانا !


هذه النظرية باطلة بلا ريب إذ تم تصورها في زمن لم يعرف فيه شيء عن الجينات و لا طريقة عملها في نمو الجنين، و لكن هناك شيء صحيح في الإستدلال بالنمو الجنيني على التاريخ التطوري إذ تظهر أحيانا تطورات يمكن فهمها بسهولة ببقايا أنشطة جينات قديمة مشتركة، فمثلا في كف الطيور لا توجد نفس عظام الأصابع الخمسة كما هو متوقع من التشابه البنائي


لكن مراقبة التطور الجنيني للطيور يظهر حقيقة جميلة و هي أن الأصابع الخمسة تظهر فعلا في جنين الطير ثم تعود لتضمحل و تلتحم مع بعضها لتناسب وظيفة الطرف الجديدة في الطيران، هذا يلخص الطفرات التدريجية التي كونت الجناح فعلا عبر الزمان التطوري و تعزز من فكرة التشابه البنائي Homology المفترض للطير مع بقية ذوات الأربع.
المثال الأكثر إدهاشا عن التشابهات الجنينية في التطور هو في تكون الكلية بين الفقاريات المختلفة (الكلية موجودة فقط في الفقاريات)، و لنبدأ بتكونها في الإنسان كمثال على طريقة تكونها في الثديات. حيث تبدأ الكلية بالتطور من الطبقة الجنينية الوسطى بالجنين حوالي الإسبوع الثالث مكونة ما يسمى بـ Pronephros التي سرعان ما تضمر تماما في غضون 3 أيام دون أن يكون لها أي وظيفة إخراجية، ثم تتكون ما يسمى بالـ Mesonephros في الإسبوع الرابع و تقوم بوظيفة إخراجية حيث تفتح في قنوات خاصة حتى المثانة البدائية ثم تضمر هذه الكلية مكونة أجزائا مختلفة من الجهاز التناسلي ثم أخيرا تتكون ما يسمى بالـ Metanephron من الكلية السابقة و ذلك في الإسبوع الخامس.


مراقبة تطور الكلى في الفقاريات الأخرى ستلقي أضوائا كاشفه على هذه المراحل بتوافق تام مع التاريخ التطوري المفترض، فالكلية الأولى Pronephros تنمو لدى أجنة الأسماك البدائية أيضا ثم تتواصل معهم مكونة الكلية الدائمة لهذه المخلوقات و أجزائا من الكلية الدائمة للأسماك العظمية و البرمائيات، هذا يفسر ظهورها و إختفائها المريب في الثديات و منها الإنسان، أما الكلية الوسطى Mesonephros فهي تظهر في الأسماك العظمية و البرمائيات بعد الأولى لتكون كليتهم الدائمة ، و أخيرا فإن الكلية الأخيرة Metanephros   فتظهر لدى الزواحف و الطيور و الثديات مع إضمحلال جزئي أو كلي للكلية الوسطى. هكذا يكون تطور الكلية في الإنسان تلخيصا لتاريخ تطورها كله !!

ثم جاء عصر الجينات
التشابه الجيني في دلالته على التطور الأحيائي فريد من نوعه إذ تضمحل هنا مشاكل التشابه البنائي و المماثلة الخادعة و نستطيع إختبار الفرضيات التطورية بطريقة مستقلة لا تتأثر بحكمنا على الصفات التشريحية للكائن. رغم تعدد الدراسات و الأمثلة على التشابه الجيني لكن سنستعرض مثالا واحدا فقط فيه الكفاية و هو حالة الجين الذي ينتج البروتين/الإنزيم Cytochrome C
إختيار هذا الجين بالذات تم لأنه يقوم بوظيفة أساسية في الخلية بحيث لا تخلو منه أي خلية حية سواء أكانت لبكتريا أو لإنسان، هذه الوظيفة لا تتعلق بالشكل الظاهري أو الوظيفة الخاصة بعضو ما لأنها ببساطة تتمثل في نقل الإلكترون في سلسلة إنتاج الطاقة التي تتواجد في كل صور الحياة بنفس الطريقة تماما !! و فعلا فإن إستبدلنا هذا الجين لدى الإنسان بجين مستخلص من الخميرة فإنه يقوم بنفس الوظيفة تماما في الخلية الإنسانية بلا أي مشاكل !


و لنبدأ بالبروتين الذي يتكون من تسلسل مخصوص لـ 100 حمض أميني ، و لابد من مقدمة صغيرة لفهم جوهر المسألة، ففي الأحياء تكون وظيفة الجينات هي حفظ المعلومات التي يتم ترجمتها لصناعة البروتينات و هذه بدورها تتكون من تسلسل خاص من بين 20 حمض أميني مختلف يمكن إستعمال أيا منها في سلسلة البروتين بحيث تكون مواضع الأحماض الأمينية في السلسلة الخاصة ببروتين معين محددة بدقة بواسطة الجينات. بعد أن يتكون البروتين عبر ترجمة تعليمات الجين خاصته يتحدد شكله تماما بتسلسل أحماضه الأمينية و يحدد هذا الشكل وظيفته البيولوجية. لذا فإن الجين الحامل لمعلومة التسلسل الخاص بالأحماض الأمينية لبروتين معين يحدد شكله النهائي و من ثم وظيفته.
هناك ظاهرة إسمها الوفرة الوظيفية Functional Redundancy و في حالة بروتين الـ Cytochrome C فهي ببساطة تعني أن هناك تسلسلات مختلفة من هذا البروتين يمكنها أداء نفس الوظيفة تماما و ذلك لأن عدد التسلسلات المسئولة مباشرة عن شكل المنطقة الفعالة به بسيطة نسبيا، فبروتين الخميرة مثلا يختلف في التسلسل عن بروتين الإنسان بنسبة 40% و مع ذلك يقوم بأداء نفس الوظيفة عندما ينقل للإنسان ! و قد أثبتت الدراسات بأن عدد الأشكال الوظيفية المختلفة الصالحة من هذا البروتين تبلغ رقما فلكيا يبلغ 2.3 مضروبا في 10 مرفوعه للأس 93 !!! لنستطيع  إدراك ضخامة هذا الرقم فمن المفيد أن نذكر أن عدد حبات الرمل في كل شواطيء الكرة الأرضية تساوي تقريبا 7.5 مضروبة في 10 مرفوعه للأس 18 فقط ! و فعلا فهذا الرقم يفوق عدد الذرات بكل الكون المرئي بمليار مرة تقريبا !!
إذن مادام هذا البروتين يمكن أن يتكون بعدد خرافي من الطرق كهذه و مادامت كلها تقوم بنفس الوظيفة بالذات بلا مشاكل فماهو إحتمال أن يكون هناك تشابه بالصدفة بين تسلسل البروتين مثلا بين الإنسان و الشمبانزي ؟ أولا علينا إدراك أن النظرية التطورية ستقول بأنه يجب أن يكون هناك تشابه كبير بين بروتين الإنسان و الشمبانزي نظرا لأنهما ينحدران من سلف مشترك قبل 6 ملايين سنة تقريبا و أنه ما من سبب معروف غير هذا يمكنه تبرير أي تشابه، و بالفعل سنجد أن البروتينيين يتطابقان تماما رغم الكثرة المهولة من الإحتمالات و سنجد أن إحتمال الحدوث الصدفي لهذا الإتفاق يبلغ سالب 10 مرفوعه للأس 93 !!
فإذا تقدمنا خطوة أخرى و إختبرنا الكود الجيني للبروتين هذه المرة فسنجد أن هناك طبقة أخرى من الوفرة Redundancy لأن الكود الجيني يتكون في الأساس من تكرار أربعة من القواعد النايتروجينية فيما يشبه الأربعة أحرف بحيث يمثل تسلسل كل 3 منها حمضا أمينيا واحدا (تسمى كل 3 منها كودونا) و بذا ينتج بالحساب البسيط أن هناك 3 كودونات لكل حمض أميني أو بعبارة أخرى 3 طرق لتحديد نفس البروتين بالذات. و بما أن البروتين لدى الإنسان و الشمبانزي متطابق و يحوي 104 من الخانات فلذا يكون عدد الشفرات الجينية التي يمكن أن تنتجه هو نفسه تماما مساويا لـ 3 مرفوعه للأس 104 أو 10 مرفوعه للأس 46 تقريبا.  من جديد ليس هناك من سبب يجعل الأكواد الوراثية تتشابه و لو بنسبة ضئيلة خصما على هذه الإحتمالات المهولة، و من ناحية أخرى فإن معدل الطفر في الرئيسيات و أغلب الثديات معروف و يقارب  1- 5 مضروبا في 10 مرفوعه لسالب 8 للقاعدة الواحدة في الموقع الواحد في الجيل الواحد، فإذا عرفنا أن متوسط عمر الجيل لدى الرئيسيات يساوي 20 سنة تقريبا و أن الدراسات من السجل الإحفوري تضع السلف المشترك للإنسان و الشمبانزي ما بين 10 إلى 6 مليون سنة مضت فإن حساب كل هذا يخرج بإستنتاج نظري و هو أن معدل الإختلاف بين الشفرة الجنينية للسايتوكروم سي بين النوعين يجب ألا يتجاوز 3% فقط! و فعلا فإن معدل الإختلاف المشاهد بالتجربة بين الشفرتين هو 1.2% رغم العدد المهول من الشفرات الممكنة.
و إن لم يكف هذا كله لتعزيز فرضية الأصل المشترك فليس أقل إذن من الإشارة أخيرا لكون أن الشجرة Phylogenetic Tree  المستنتجه عبر التشابهات في هذا الجين بالتحديد و المستقل عن الصفات الشكلية و الوظيفية للكائنات تطابق الأشجار الأخرى المرسومة بالتشابهات البنائية و السجل الإحفوري !!


خلاصة
لفكرة التشابه بين المخلوقات تاريخ طويل و معقد يجعل من مسألة فهم وجه دلالتها في التفكير التطوري الحديث أمرا مخاتلا بعض الشيء، و لكن من دون إستيعاب دقيق للأفكار المتضمنة في الموضوع فلن يمكن إدارة حوار عقلاني حوله و لا حتى تقدير جمال الطريقة العلمية الحديثة. أرجو أن أكون قد ساهمت بإثارة الفضول _ بهذا القدر الضئيل من بحر المعارف المتراكمة لأكثر من قرن و نصف حول البيولوجيا التطورية _ حتى يسعى الناس لتحسين معرفتهم بأكثر الأفكار جدارة و نقاشا في القرنين الأخيرين. ففي نهاية المطاف فكل هذا التشابه لا يعني أكثر من كوننا جزئا لا يتجزئا من سيمفونية الحياة المتناغمة رغم تكريمنا بقدرة فهم كل هذا الجمال !