سلسة الوجود العظيمة
منذ
زمن أرسطو و أفلاطون كانت هناك فكرة مغرية لا تزال تعيش بأشكال مختلفة حتى يومنا
هذا، سميت باللاتينية scala naturae
: سلم الطبيعة، كانت هذه الفكرة من أولى المحاولات المعروفة
لتصنيف الكائنات الحية في نظام طبيعي تمت صياغته بتأثير من الهرمية الإجتماعية في
الغالب، حيث يترتب الوجود متدرجا من الجماد فالنبات فالحيوان فالإنسان فالمقدس.
كانت هناك أيضا أفكار أخرى لم يكتب لها الإنتشار أيامها مثل تصور الفيلسوف الإغريقي
القديم أناكسيماندر عن كون بدأ بفراغ غير متشكل ثم غمره الماء لتخرج النباتات و
الحيوانات من الطين ثم يخرج الإنسان متأخرا من الأسماك التي حملته في الأزمان
القديمة!
نجد أصداء فكرة التسلسل الطبيعي في الحضارة
الإسلامية لدى مفكرين مثل ابن مسكوية و أخوان الصفا و ابن خلدون مع إضافة مهمة جدا:
ألا و هي فكرة التشابه المفضي للتطور بين الكائنات ! يقول ابن خلدون في المقدمة:
"" اعلم أرشدنا الله وأياك , أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات
كلها على هيئة من الترتيب والأحكام , وربط الاسباب بالمسببات , واتصال الأكوان بالأكوان
, وأستحالة بعض الموجودات الى بعض , لا تنقضى عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته , وأبدأ
من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني , وأولا عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من
الأرض الى الماء , ثم الى النار متصلاَ بعضها ببعض . وكل واحد منها مستعد الى أن يستحيل
الى مايليه صاعداً وهابطاً ويستحيل بعض الوقت , والصاعد منها ألطف مما قبل الى أن ينتهي
الى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس
منها الا الحركات فقط , وبها يهتدى بعضهم الى معرفة مقاديرها وأوضاعها وما بعد ذلك
من وجود الذوات التى لها هذه الأثار فيها . ثم انظر الى عالم التكوين كيف ابتدأ من
المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج . أخر أفق المعادن متصل بأول
أفق النبات مثل الحشائش وما لابذر له , وأخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول
أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف , ولم يوجد لهما الا قوة اللمس فقط . ومعنى الاتصال
في هذه المكونات أن أخر كل أفق منها مستعد بالأستعداد القريب ( الطبيعي ) لأن يصير
أول أفق الذي بعده , واتسع عالم الحيوان وتعددت انواعه , وانتهى في تدريج التكوين الانسان
صاحب الفكر والرويه , ترتفع اليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والادراك ولم
ينته الى الروية والفكر بالفعل , وكان ذلك أول أفق من الانسان وبعده . وهذا غاية شهودنا
"
كانت
هذه الفكرة ساحقة الإنتشار عبر التاريخ تغذيها التشابهات الواضحة بين الأنواع
الحية المشاهدة، حتى أن أوائل محاولات التصنيف البيولوجي بواسطة لينياس 1737م قد
تأثرت بها في تصنيفه الثلاثي لممالك المعادن و النبات و الحيوان، ثم زاد الطين بله
أن العالم الجيولوجي البريطاني شارلس لايل عام 1851م قد إستعملها كتمثيل لعموده
الجيولوجي ثم سمى فقدان بعض الطبقات فيه بمشكلة "الحلقة المفقودة Missing
link"
، هذا المصطلح الجديد الذي نتج مباشرة عن فكرة سلسلة الوجود ليلتصق من بعد بفكرة
التطور البيولوجي لاحقا.
وحدة التصميم، وحدة الصانع
كانت الأفكار القديمة حول التشابه التي
أنتجت أفكار ترتيب الكائنات في سلسلة متدرجة تقوم على الشكل الظاهري و الأنواع
البسيطة المشاهدة آنذاك من الكائنات (كان لينياس مقتنعا بأنه قد قام بتسمية كل
المخلوقات الحيه في عمله الذي إحتوى على عشرة آلاف نوع حي بينما نعرف اليوم أن
الأنواع الحية اليوم تقدر بـ 8.7 مليون نوع تقريبا !)، و لكن مع تقدم علوم
البيولوجيا و التشريح تحديدا ظهر نوع آخر مهم من التشابه لم يكن من الممكن ملاحظته
سابقا.
في العام 1848م نحت عالم التشريح
الإنجليزي ريتشارد أوين مفهوم التشابه البنائي Homology ليفسر ظاهرة محيرة و هي وجود نفس العضو بالذات
في مخلوقات مختلفة بأشكال و وظائف شديدة التنوع ! المثال الكلاسيكي لهذا المفهوم
هو أطراف الثديات:
فبرغم
الإختلاف الشديد بين زعنفة الحوت و جناح الخفاش و رجل القط و يد الإنسان في الشكل و الوظيفة إلا أنها جميعا تتمتع بتناظر
ماثل للعيان يجعل من هذا العضو عضوا ذا تشابه بنائي بائن Homologous
structure. كان
التفسير الذي قدمه أوين لهذه الظاهرة هو أن هناك تصميما مسبقا Blueprint للكائنات و أنه يدل على
وحدة الصانع.
بالطبع
كان معروفا أن هناك تشابهات عديدة بين الكائنات الحية قبل إشتقاق مفهوم التشابه
البنائي، و كانت تعرف بـ المماثلة Analogy مثل الشكل الإنسيابي و الزعانف لكل من الدولفين و القرش ، لكن مع
تطوير مفهوم المشابهة Homology صار لمفهوم المماثلة Analogy معنى جديدا، يقول أوين :"المماثلة هي وجود عضو له نفس
الوظيفة أو الشكل" ، و مع ظهور البيولوجيا التطورية لاحقا صار مفهوم التشابه
البنائي هو الأساس و إضمحل مفهوم المماثلة في المفهوم الأكبر للتطور المتلاقي Convergent
Evolution كما
سنرى لاحقا.
المهم هو أن المماثلة
هي الشبه الظاهري في الشكل أو الوظيفة بينما التشابه البنائي لا يتعلق بهما معا،
كما في المثال الواضح لأوراق الشجر هذه التي تختلف تماما في الشكل و الوظيفة ثم
تكون متشابهة بنائيا Homologous بسبب من أنها نفس العضو
بالذات تصميميا.
ففعلا
إذا تأملنا من حيث ننظر الآن Hindsight لفكرة المماثلة لوجدناها
ضعيفة الدلالة لوحدها على تقرير أي علاقات relations بين الأشياء (مثل تدرجات
سلسلة الوجود العظمى)، إذ أن هناك العديد من التشابهات و الإختلافات أيضا بين
المخلوقات فكيف لنا أن نرتبها بطريقة موضوعية غير تحكمية مادمنا ننظر إلى مجرد
مماثلات غير معروفة الأسباب ؟
البيولوجيا التطورية و علاقات
القربى
في
المثال الأشهر لملاحظات دارون في رحلته المشهورة بالسفينة بيغل ألا و هي طيور جزر
جلاباجوس نجد بداية النظرية التطورية لدارون، كان العالم المغمور حينها يرفض
الأفكار التطورية بعصره التي تلقى معارضة شديدة من كبار علماء عصره (نظريات لامارك
و شامبرت و قرانت و سان هيلاري) و كان تفكيره محصورا بفكرة "مراكز
الخلق" للعالم لايل التي تقول بأن كل نوع خلق في بيئة جغرافية معينة ثم إنتشر
منها و أن من واجب العالم أن يستنتج من الخصائص الجسمانية للأنواع الجديدة المكان
الخاص الذي خلق فيه النوع المحدد.
لا
أود هنا إستعراض التفكير الذي قاد دارون لتغيير نظرته و التوصل لنظريته الخاصة في
الإنتخاب الطبيعي و الأصل المشترك للأنواع، و إنما ملاحظة أن تفسير دارون اللاحق
للتشابه الكبير بين طيوره مع الإختلاف البائن في شكل منقارها المناسب تماما لطبيعة
غذائها المختلفة من جزيرة لأخرى قد أقنعته بأن هناك فرضية بسيطة يمكنها تفسير
التشابه و الإختلاف كالآتي:
في
البدء كان هناك نوع واحد من الطيور على جزيرة واحدة، ثم هاجرت بعض المجموعات لجزر
أخرى، و بسبب من إختلاف نوعية الغذاء المتوفر بكثرة من جزيرة لأخرى فإن شكل
المنقار عبر الأجيال المتلاحقة قد إختلف من جزيرة لأخرى ليتناسب مع طبيعة الغذاء
المختلفة.
فإذا
طبقنا هذه الفكرة البسيطة على مفهوم التشابه البنائي Homology فسنجد تفسيرا بسيطا و
قويا له : الحيوانات التي تتشابه بنائيا Homologous لها سلف مشترك واحد في
القدم إمتلك تلك الصفات البنائية باديء الأمر ثم تحورت عبر أجيال أحفاده حسب
البيئة الخاصة بكل مجموعه Population حتى صار هناك فروق
ظاهرية كبيرة بينهم رغم أصلهم المشترك الواحد !
أما
الصفات المتماثلة Analogous بين الكائنات التي لا تحوز
تشابها بنائيا فيما بينها فيمكن تفسيرها أيضا بسهولة بنفس آلية تكيف المناقير في الجزر
المختلفة، فإن هاجرت مجموعات أخرى من الطيور إلى جزيرة معينة مثلا فمن الواضح أن
نفس العوامل التي تحورت تحت ضغطها طيور دارون ستعمل على الطيور الجديدة إن كانت
تتغذى على نفس الحبوب بحيث تتشابه مناقيرها مع المناقير الخاصة بطيور دارون في تلك
الجزيرة بالذات، بهذه الطريقة سينتج تشابه وظيفي دون أن يكون هناك علاقات قربى و
لا تشابه بنائي بين الأنواع المتماثلة.
شجرة
الحياة
الفكرة
المركزية الأقوى للنظرية التطورية هي الوحدة المركزية للحياة على الأرض. أحد
الأسباب المهمة لسوء الفهم الشائع لها هو إستمرار الأفكار القديمة في الحياة
بثقافة عصرنا بسبب من الصراع الذي رافق نظرية دارون منذ مبتدئها، فبرغم أن التطور
يحتم فكرة أن الكائنات تترتب في شكل شجري متفرع Tree
of Life يعكس
علاقات القربى الرحمية لبعضها البعض ، ألا أن الفكرة الشائعة لسلسلة الوجود إستمرت
بالحياة في زمن دارون و ما بعده بفضل كتابات إرنست هيكل 1874م التي أشاعت فكرة أن
التطور الداروني يقول بتطور الأنواع المشاهدة حاليا من بعضها البعض !! و لا تزال
الفكرة الخاطئة التي تقول بتطور الإنسان من القرود شائعة بعصرنا كسوء فهم للنظرية
التطورية.
عودة
للسؤال المركزي حول كيفية التفريق بين الصفات ذات التشابه البنائي Homology و تلك التي تعود بمجرد
المماثلة الوظيفية Analogy ؟ فبأي طريقة يمكننا أن نعرف متى نستطيع تطبيق فكرة القرابة
الرحمية و الأصل الواحد لتفسير التشابه ؟
هنا
نجد أن تحليل مجموع الصفات المشتركة يقدم بنفسه حلا مدهشا للمعضلة، فإذا درسنا
الصفات المختلفة (المورفولوجية/الظاهرية و الجينية و السلوكية) للكائنات المختلفة فسنتجاوز
الكثير من معضلات الإعتماد على صفة بعينها، بحيث يتم رسم شجرة العلاقات بين الكائنات
إعتمادا على الصفات المختلفة التي تجمعها فيما يعرف بالـ Cladistic
analyses
لإستنتاج الصفة المشتركة Shared trait التي ورثتها عن سلفها
المشترك.
فهكذا
مثلا تكون للقروش و السحالي صفة مشتركة هي العمود الفقري الذي يعبر عن التشابه
البنائي بينما يكون وجود أطراف limbs لكل من السحلية و الأخطبوط مماثلة وظيفية فقط (طرف للحركة) لأن
طرف الأخطبوط لا ينتج عن سلف مشترك مع أقربائه بل هو صفة مشتركة مشتقه Derived
Shared Trait .
مثال
آخر هو الشجرة التطورية للزواحف و الطيور، فبينما يبدو ظاهريا أن التمساح و
السحلية مثلا أقرب لبعضهما إلا أن تحليل كامل الصفات يجعلها أقرب للطيور من
السحالي، بل يضع الطيور كذلك في علاقة مباشرة مع الديناصورات المنقرضة بإعتبارها
آخر فصائل الديناصورات الموجوده اليوم !! و فعلا فالتحليل الجيني اللاحق أثبت
متانة هذا التحليل التركيبي و صحته !
التشابه في أمكنة غير متوقعه
إذا
فالمنطق التطوري لا يستدل من التشابه على الأصل الواحد بقفزة واحدة في المجهول و
إنما يقيم فرضيات يفسر بها نمط التشابهات البنائية الملاحظ و يتبعها بتنبؤات معينة
معروضة للتحقق التجريبي. و بما أن فرضية الأصل المشترك لا يمكن التحقق منها مباشرة
إلا بواسطة آلة زمانية تعيدنا لمشاهدة ما حصل بأعيننا فإن أفضل ما يمكن هو أن
تتضافر الأدلة المستقلة من طرق بحثية مختلفة على نفس النتيجة بالذات ألا و هي
الترتيب الشجري للكائنات في دوائر قربى متداخلة Nested
Hierarchies .
و
هذا التطابق بين الأدلة المستقلة عن بعضها هو بالضبط ما زودتنا به المعارف الجينية
الحديثة كما سنرى في الفقرة القادمة، و لكن الآن فلنستعرض وجه شبه غريب و مذهل من
التطور الجنيني Embryological Development . لكن أولا فلنستعرض سوء
فهم شائع كذلك عن دلالة التطور الجنيني على التطور البيولوجي للأنواع.
البطل
المسئول عن سوء التفاهم هذا هو العالم هيكل كالعاده ! بنظريته التي لخصتها العبارة
الشهيرة Ontogeny recapitulate Phylogeny أي النمو الجنيني يعيد
تمثيل التاريخ التطوري، فقد ظن هيكل من ملاحظاته لتطور الأجنة المختلفة بأن كل
حيوان يمر جنينيا عبر نفس الأشكال البالغة تقريبا لمن شارك معهم أسلافا مشتركة !!
فيكون جنين الإنسان مثلا سمكة فبرمائيا فزاحفا فطيرا ثم إنسانا !
هذه
النظرية باطلة بلا ريب إذ تم تصورها في زمن لم يعرف فيه شيء عن الجينات و لا طريقة
عملها في نمو الجنين، و لكن هناك شيء صحيح في الإستدلال بالنمو الجنيني على
التاريخ التطوري إذ تظهر أحيانا تطورات يمكن فهمها بسهولة ببقايا أنشطة جينات
قديمة مشتركة، فمثلا في كف الطيور لا توجد نفس عظام الأصابع الخمسة كما هو متوقع
من التشابه البنائي
لكن
مراقبة التطور الجنيني للطيور يظهر حقيقة جميلة و هي أن الأصابع الخمسة تظهر فعلا
في جنين الطير ثم تعود لتضمحل و تلتحم مع بعضها لتناسب وظيفة الطرف الجديدة في
الطيران، هذا يلخص الطفرات التدريجية التي كونت الجناح فعلا عبر الزمان التطوري و
تعزز من فكرة التشابه البنائي Homology المفترض للطير مع بقية
ذوات الأربع.
المثال
الأكثر إدهاشا عن التشابهات الجنينية في التطور هو في تكون الكلية بين الفقاريات
المختلفة (الكلية موجودة فقط في الفقاريات)، و لنبدأ بتكونها في الإنسان كمثال على
طريقة تكونها في الثديات. حيث تبدأ الكلية بالتطور من الطبقة الجنينية الوسطى
بالجنين حوالي الإسبوع الثالث مكونة ما يسمى بـ Pronephros التي سرعان ما تضمر
تماما في غضون 3 أيام دون أن يكون لها أي وظيفة إخراجية، ثم تتكون ما يسمى بالـ Mesonephros في الإسبوع الرابع و تقوم بوظيفة إخراجية حيث
تفتح في قنوات خاصة حتى المثانة البدائية ثم تضمر هذه الكلية مكونة أجزائا مختلفة
من الجهاز التناسلي ثم أخيرا تتكون ما يسمى بالـ Metanephron من الكلية السابقة و ذلك
في الإسبوع الخامس.
مراقبة
تطور الكلى في الفقاريات الأخرى ستلقي أضوائا كاشفه على هذه المراحل بتوافق تام مع
التاريخ التطوري المفترض، فالكلية الأولى Pronephros تنمو لدى أجنة الأسماك
البدائية أيضا ثم تتواصل معهم مكونة الكلية الدائمة لهذه المخلوقات و أجزائا من
الكلية الدائمة للأسماك العظمية و البرمائيات، هذا يفسر ظهورها و إختفائها المريب
في الثديات و منها الإنسان، أما الكلية الوسطى Mesonephros فهي تظهر في الأسماك العظمية
و البرمائيات بعد الأولى لتكون كليتهم الدائمة ، و أخيرا فإن الكلية الأخيرة Metanephros
فتظهر لدى الزواحف و الطيور و الثديات مع
إضمحلال جزئي أو كلي للكلية الوسطى. هكذا يكون تطور الكلية في الإنسان تلخيصا
لتاريخ تطورها كله !!
ثم
جاء عصر الجينات
التشابه
الجيني في دلالته على التطور الأحيائي فريد من نوعه إذ تضمحل هنا مشاكل التشابه
البنائي و المماثلة الخادعة و نستطيع إختبار الفرضيات التطورية بطريقة مستقلة لا
تتأثر بحكمنا على الصفات التشريحية للكائن. رغم تعدد الدراسات و الأمثلة على
التشابه الجيني لكن سنستعرض مثالا واحدا فقط فيه الكفاية و هو حالة الجين الذي
ينتج البروتين/الإنزيم Cytochrome C
إختيار
هذا الجين بالذات تم لأنه يقوم بوظيفة أساسية في الخلية بحيث لا تخلو منه أي خلية
حية سواء أكانت لبكتريا أو لإنسان، هذه الوظيفة لا تتعلق بالشكل الظاهري أو
الوظيفة الخاصة بعضو ما لأنها ببساطة تتمثل في نقل الإلكترون في سلسلة إنتاج
الطاقة التي تتواجد في كل صور الحياة بنفس الطريقة تماما !! و فعلا فإن إستبدلنا
هذا الجين لدى الإنسان بجين مستخلص من الخميرة فإنه يقوم بنفس الوظيفة تماما في
الخلية الإنسانية بلا أي مشاكل !
و
لنبدأ بالبروتين الذي يتكون من تسلسل مخصوص لـ 100 حمض أميني ، و لابد من مقدمة
صغيرة لفهم جوهر المسألة، ففي الأحياء تكون وظيفة الجينات هي حفظ المعلومات التي
يتم ترجمتها لصناعة البروتينات و هذه بدورها تتكون من تسلسل خاص من بين 20 حمض
أميني مختلف يمكن إستعمال أيا منها في سلسلة البروتين بحيث تكون مواضع الأحماض
الأمينية في السلسلة الخاصة ببروتين معين محددة بدقة بواسطة الجينات. بعد أن يتكون
البروتين عبر ترجمة تعليمات الجين خاصته يتحدد شكله تماما بتسلسل أحماضه الأمينية و
يحدد هذا الشكل وظيفته البيولوجية. لذا فإن الجين الحامل لمعلومة التسلسل الخاص
بالأحماض الأمينية لبروتين معين يحدد شكله النهائي و من ثم وظيفته.
هناك
ظاهرة إسمها الوفرة الوظيفية Functional Redundancy و في حالة بروتين الـ Cytochrome
C فهي
ببساطة تعني أن هناك تسلسلات مختلفة من هذا البروتين يمكنها أداء نفس الوظيفة
تماما و ذلك لأن عدد التسلسلات المسئولة مباشرة عن شكل المنطقة الفعالة به بسيطة
نسبيا، فبروتين الخميرة مثلا يختلف في التسلسل عن بروتين الإنسان بنسبة 40% و مع
ذلك يقوم بأداء نفس الوظيفة عندما ينقل للإنسان ! و قد أثبتت الدراسات بأن عدد
الأشكال الوظيفية المختلفة الصالحة من هذا البروتين تبلغ رقما فلكيا يبلغ 2.3
مضروبا في 10 مرفوعه للأس 93 !!! لنستطيع إدراك ضخامة هذا الرقم فمن المفيد أن نذكر أن
عدد حبات الرمل في كل شواطيء الكرة الأرضية تساوي تقريبا 7.5 مضروبة في 10 مرفوعه
للأس 18 فقط ! و فعلا فهذا الرقم يفوق عدد الذرات بكل الكون المرئي بمليار مرة
تقريبا !!
إذن
مادام هذا البروتين يمكن أن يتكون بعدد خرافي من الطرق كهذه و مادامت كلها تقوم
بنفس الوظيفة بالذات بلا مشاكل فماهو إحتمال أن يكون هناك تشابه بالصدفة بين تسلسل
البروتين مثلا بين الإنسان و الشمبانزي ؟ أولا علينا إدراك أن النظرية التطورية
ستقول بأنه يجب أن يكون هناك تشابه كبير بين بروتين الإنسان و الشمبانزي نظرا
لأنهما ينحدران من سلف مشترك قبل 6 ملايين سنة تقريبا و أنه ما من سبب معروف غير
هذا يمكنه تبرير أي تشابه، و بالفعل سنجد أن البروتينيين يتطابقان تماما رغم
الكثرة المهولة من الإحتمالات و سنجد أن إحتمال الحدوث الصدفي لهذا الإتفاق يبلغ
سالب 10 مرفوعه للأس 93 !!
فإذا
تقدمنا خطوة أخرى و إختبرنا الكود الجيني للبروتين هذه المرة فسنجد أن هناك طبقة
أخرى من الوفرة Redundancy لأن الكود الجيني يتكون في الأساس من تكرار أربعة من القواعد
النايتروجينية فيما يشبه الأربعة أحرف بحيث يمثل تسلسل كل 3 منها حمضا أمينيا
واحدا (تسمى كل 3 منها كودونا) و بذا ينتج بالحساب البسيط أن هناك 3 كودونات لكل
حمض أميني أو بعبارة أخرى 3 طرق لتحديد نفس البروتين بالذات. و بما أن البروتين
لدى الإنسان و الشمبانزي متطابق و يحوي 104 من الخانات فلذا يكون عدد الشفرات
الجينية التي يمكن أن تنتجه هو نفسه تماما مساويا لـ 3 مرفوعه للأس 104 أو 10
مرفوعه للأس 46 تقريبا. من جديد ليس هناك
من سبب يجعل الأكواد الوراثية تتشابه و لو بنسبة ضئيلة خصما على هذه الإحتمالات
المهولة، و من ناحية أخرى فإن معدل الطفر في الرئيسيات و أغلب الثديات معروف و
يقارب 1- 5 مضروبا في 10 مرفوعه لسالب 8
للقاعدة الواحدة في الموقع الواحد في الجيل الواحد، فإذا عرفنا أن متوسط عمر الجيل
لدى الرئيسيات يساوي 20 سنة تقريبا و أن الدراسات من السجل الإحفوري تضع السلف
المشترك للإنسان و الشمبانزي ما بين 10 إلى 6 مليون سنة مضت فإن حساب كل هذا يخرج
بإستنتاج نظري و هو أن معدل الإختلاف بين الشفرة الجنينية للسايتوكروم سي بين
النوعين يجب ألا يتجاوز 3% فقط! و فعلا فإن معدل الإختلاف المشاهد بالتجربة بين
الشفرتين هو 1.2% رغم العدد المهول من الشفرات الممكنة.
و إن
لم يكف هذا كله لتعزيز فرضية الأصل المشترك فليس أقل إذن من الإشارة أخيرا لكون أن
الشجرة Phylogenetic Tree المستنتجه
عبر التشابهات في هذا الجين بالتحديد و المستقل عن الصفات الشكلية و الوظيفية
للكائنات تطابق الأشجار الأخرى المرسومة بالتشابهات البنائية و السجل الإحفوري !!
خلاصة
لفكرة
التشابه بين المخلوقات تاريخ طويل و معقد يجعل من مسألة فهم وجه دلالتها في
التفكير التطوري الحديث أمرا مخاتلا بعض الشيء، و لكن من دون إستيعاب دقيق للأفكار
المتضمنة في الموضوع فلن يمكن إدارة حوار عقلاني حوله و لا حتى تقدير جمال الطريقة
العلمية الحديثة. أرجو أن أكون قد ساهمت بإثارة الفضول _ بهذا القدر الضئيل من بحر
المعارف المتراكمة لأكثر من قرن و نصف حول البيولوجيا التطورية _ حتى يسعى الناس
لتحسين معرفتهم بأكثر الأفكار جدارة و نقاشا في القرنين الأخيرين. ففي نهاية
المطاف فكل هذا التشابه لا يعني أكثر من كوننا جزئا لا يتجزئا من سيمفونية الحياة
المتناغمة رغم تكريمنا بقدرة فهم كل هذا الجمال !
هناك تعليق واحد:
جميل ورايع بصوره جذابه والله الواحد حقو كلو ما يزهج يجي يقرا المقاله دي
مقال عيق القي الضوء علي نقاط جوهريه واي يزول يقرا المقال دا يفهم مضمونو اكيد حيكون حقق قفزه من المفهوم القديم والاخر الجديد واتفتح ليهو افق اوسع للنقاش والبحث والمقدره علي فهم اي update بخصوص الموضوع دا
إرسال تعليق