عندما سئل الفيزيائي العبقري (مخترع النظرية النسبية) آينشتاين عن أكثر الألغاز العلمية غموضا بعصرنا، فاجأ الجميع بإشارته لرأسه و هو يقول:"إننا نحمله في رؤوسنا طيلة الوقت!". |
من المثير للسخرية أن هذا الجهاز المعقد لم ينل حظه من الإحترام إلا بالعصر الحديث، فعند قدامى المصريين إعتبر القلب و ليس الدماغ وعاء التفكير و الشعور، لذا كان يدفن بتعظيم بالغ مع المتوفى بينما يتم التخلص من دماغه عبر الأنف (بكسر العظم الرقيق للجمجمة أعلى الأنف و شفط المخ عبره). و حتى شجاعة أرسطو الفلسفية لم تمنح المخ أكثر من وظيفة مبرد Radiator لموقع التفكير الأساسي: القلب، و لكن بفضل تقريره الحاسم بكون الذكاء وظيفة للروح العاقل Rational Soul و ليست متمركزة بأي عضو جسدي. اكتسب المخ بعض الأهمية بعد أعمال هيروفيلس و اراسيستراتس الإسكندريين حول تشريح الدماغ حيث زعما بأن بطينات المخ (تجويفات متصله ببعضها داخل المخ) هي مستقر تلك الروح العاقلة!. |
من أوائل التكوينات العصبية البسيطة تلك العائدة لهلام البحر Jellyfish(Medusa) حيث تلعب الشبكة العصبية الخام دورا بسيطا و رائعا في تنسيق حركته الموجية المذهلة. أما أول مخلوق يمتلك جهازا عصبيا مركزيا (يتمايز إلى دماغ و أعصاب طرفية) فهو دودة الأرض (الصارقيل) رغم أنه لم يصل بعد لفرض حكمه الديكتاتوري على كامل جسد الدودة فلا بزال بإمكانها القيام بسلوكيات معقدة بعد قطع دماغها كالحركة و التزاوج و الحفر و حتى تعلم الخروج من المتاهة maze learning . |
لنتعرف الآن عن قرب على آخر إضافة للدماغ neocrtex ، هذه المنطقة التي تكون 70% من دماغنا البشري فنحن ندين لها كليا بما يجعلنا بشرا. بادئ ذي بدء هي تنقسم إلى نصفين كرويين يربط بينهما كتلة من الألياف العصبية تسمى بالجسم الجاسئ Corpus callosum. و رغم حجم هذه المنطقة الكبير إلا أن كل الخلايا العصبية المكونة لها تقبع على السطح في شريط ضئيل يبلغ سمكه بضع مليمترات فقط. نعرف الآن أن هذه المنطقة المجعدة بشدة حتى تضم مساحة أكبر (تبلغ تقريبا مساحة شاشة 27بوصة) و هي محبوسة بالجمجمة تنقسم إلى فصوص Lobes مختلفه تحوي بدورها باحات مختلفة (وظيفيا و نسيجيا)، و لكن ما لا نعرفه بعد هو وظيفة العديد من تلك الباحات التي تبدو كسر غامض نحمله يوميا دون أن نكون حقا في حاجة إليه في أي شيء نود عمله بأدمغتنا! (كل الوظائف الدنيا و العليا وجدت لها مكانا بهذا البهو الرحب و هي محدده بدقة الآن)، إذن فلنتابع تقصي أهم وظائف الباحات المعروفة لدينا. في عام 1848 تعرض عامل السكة الحديدية فيناس جاج لحادث مروع، حيث إخترق قضيب من الحديد مقدمة رأسه، و لكن لدهشة الجميع لم يبد أن هذا قد أثر عليه بتاتا، على الأقل في البدء إذ بعدها تغيرت الشخصية الهادئة الإجتماعية إلى شخصية لرجل بلا قيود، رجل متحرر من أي كبح إجتماعي أو أخلاقي، و هكذا عبر هذا الحادث الدرامي تكونت للعلماء أول فكرة عن وظيفة الفص الجبهي الأمامي Frontal Lobe ، تحديدا تماسك الشخصية و التخطيط الطويل الأمد و القدرة على التحكم بالذات. من الإكتشافات المثيرة في معرفتنا بوظائف الدماغ كون أن لكل نصف من الكرة المخية تخصصا مختلفا، فبالنسبة للنصف الأيسر نجد أنه مسئول عن فهم و توليد الكلام و الإنتباه للتفاصيل و الحساب، بينما يبرع النصف الأيمن في فهم و تحليل الموسيقى و نغمات الكلام (معرفة الحالة النفسية للمتحدث) و تكوين الصورة العامة للأشياء. في أغلب الأحيان يعمل هذان الأخوان بإنسجام تام بحيث يكمل كل منهما نقائص الآخر، و لكن في حالات معينة يبرز الفرق بشكل غريب. |
عرف الإنسان تأثير بعض المواد على وعيه ( و بالتالي دماغه) منذ أقدم العصور (كما تدل على ذلك الكتابات السومرية القديمة)، إبتدائا من الشاي و القهوة كمواد لرفع التركيز و انتهاء بعقارات الهلوسة الحديثة LSD لتشويه وعينا بالعالم! . و لكن ما لم نكن نعرفه هو أن كل هذه المواد لا تفعل أكثر من إستغلال ما هو قابع أصلا برؤوسنا!. و لنضرب مثلا بالمورفين ذلك العقار المخدر الشديد الفعالية و الذي يؤدي إستعماله المستمر لإدمان سريع، فهناك بتلافيف المخ مستقبلات خاصة لم يكن ليؤثر علينا من دونها و إن كانت في الأساس مصنوعة لشيء غيره، تحديدا لمواد ينتجها الدماغ نفسه و تعمل كنظام للتخفيف من الألم. الذي يحدث هو أن المورفين النباتي يشبه (عن طريق الصدفة) الشكل الكيميائي لهذه المواد (Endorphins) لذا يستطيع الإرتباط السريع بالمستقبلات المخصصه لتخفيف الألم مما ينتج أثرا قويا جدا نظرا للتركيز العالي للمورفين مقارنة بما ينتجه المخ من مواد، و هكذا مرة بعد أخرى يتوقف المخ عن إنتاج مواده الخاصة لأن هناك دوائر تغذية راجعه Negative feedback تثبط إنتاج المواد بما يتناسب مع الأثر الذي تصنعه. و لأن مصدر هذا التأثير خارجي (تعاطي المورفين) و ليس داخليا يقوم المخ بإيقاف أي إنتاج لمواده الخاصه ظنا منه أن التنبيه الزائد لدوائره ناجم عنها!، لذا حين يحاول المدمن المسكين التوقف عن تعاطي المخدر يفاجأ بأن دماغه خالي حتى من النسبة الضئيلة التي كانت تحميه سابقا، و تبدأ آلام فظيعه لدرجة أن سريان الدم في العروق يغدو مؤلما كتدفق حمم بركانية بداخل الأوردة و الشرايين!. هناك تجربة طريفة قام بها بعض العلماء الذين كانوا يدرسون أساسا النظام البصري للدماغ، حيث لاحظوا وجود إستجابه خاصة لمناطق متميزة من الدماغ حين يعرض على المفحوصين صورة لمعشوقيهم من الجنس الآخر!، شملت العينة ألف طالب و طالبة من الجامعات مع إختبارهم بجهاز كشف الكذب أولا لتحديد إذا ما كانوا حقا في حالة عشقية مع من يدعون أنهم يحبونهم!، ثم تم تصوير أدمغتهم بتقنية PET التي تتيح رؤية المناطق النشطة في الدماغ، كانت النتيجة المتسقة دوما هي نشاطا عنيفا في أربع مواقع في الدماغ كلما عرض على العشاق صورا لأحبائهم مع إنعدام هذا الأثر حال عرض صور للأصحاب أو العائلة أو الغرباء. الطريف و المرعب في الأمر أن هذه المناطق الأربعة التي ما فتئت تنشط بقوة حال رؤية المحبوب كانت هي نفس المناطق التي تنشط بنفس القوة عندما يتعاطى المرء جرعة من الكوكايين!!. هنيئا للمحبين إدمانهم إذن. |
من الحقائق الجميلة التي نعرفها اليوم كون أن عدد الخلايا العصبية (النيورونات) عند كل البشر متساوية تقريبا، ما يبدو أنه يلعب الدور الأكثر حسما في التفرقه بين آينشتاين و أبله القرية هو عدد الوصلات العصبية (synapses) بينها. في المتوسط هناك ألف مليون مليون وصلة في الدماغ البشري (1.000.000.000.000.000 وصلة). و لكن كيف تقوم هذه النيورونات بإرتباطاتها الكثيفة بكل هذه العمليات العقلية المدهشة؟!، الإجابة قد توجد في العلم الجديد الصاعد للشبكات العصبية الإصطناعية Artificial Neural Networks (أحد موضوعات الذكاء الإصطناعي) و هو بإختصار يقوم على عمل نماذج رياضية (تحديدا من علم الإحصاء و الإحتمالات) لطريقة إستجابة النيورونات في الشبكات العصبية الحية، و برمجتها حوسبيا للحصول على نتائج تضاهي قدرات عقولنا نفسها!!، ففي تجربة مشهورة غذى العلماء شبكة عصبية إصطناعية ببيانات الآلاف من المرضى الداخلين لمركز قلبي متخصص مع ما آلت إليه حالتهم المرضية، و هكذا تعلمت هذه الشبكة أن تشخص المجالات المختلفة لمرضى جدد، المثير في الأمر أن دقة هذه التنبؤات قاربت 80% بينما كانت دقة الأخصائيين بأمراض القلب من البشر لا تتجاوز 60%!!. ربما في يوم ما قد يصل إستيعابنا للرياضيات المستخدمة في هذا العلم الصاعد درجة تمكننا من تحليل التعقيد الخرافي لهذا الدماغ العجيب .. ربما!. و أخيرا لابد من كلمة حول المشاريع الطموحة لإدراك الوعي البشري عبر مصطلحات علم الأعصاب Neuroscience فيما يعرف اليوم بالأسس العصبية للوعي Neural correlates of consciousness، يسرني القول بأن الدراسات حول الأسس العصبية للوعي البصري قد حققت نجاحات باهرة حتى الآن. و لكن أكثر التأملات جنوحا و إثارة هي نظرية بنروز_هامروف( Penrose-Hameroff) حول علاقة ميكانيكا الكم بالوعي البشري عبر آلية عمل النبيبات الدقيقة بالخلايا العصبية Microtubules ، و فيها يحاولان إستغلال اللايقين الأساسي بميكانيكا الكم لتفسير حرية الإرادة البشرية عبر آليات فيزيائية صرفة توحد جنوحات التنظير الفلسفي حول الحرية مع رياضيات الكم المدهشة، و كفاهما بذلك فخرا مهما وصلت إليه فكرتهما المجنونة. |
|
هناك تعليقان (2):
مقال قديم منشور بإرشيف سودانيز أون لاين
هنا
http://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=print&board=320&msg=1293517665&rn=
انا تقريبا ادمنت هذه المدونه
لاستطيع ان اقول ان هذا رايع بشكل خرافي
إرسال تعليق