السبت، 4 أبريل 2015

حول العشوائية و شياطين أخرى

في  غالب النقاشات الإسفيرية حول نظرية التطور تدور معارك دونكيشوتية بإمتياز بسبب تجاهل المتحاورين لتعريف ما يعنونه بالـ "العشوائية"، في هذا المقال أطمح لأن يدرك الفرقاء أن ما يحتدون بشأنه أبعد ما يكون عن الفهم الباده له و أنه حقا يستحق وقفة تقدير و تأمل طويلة!

العشوائية في العلوم الكونية
باديء ذي بدء أود وضع المشكلة في إطارها الصحيح لأنها لا تختص بنظرية التطور فحسب و إنما نجد أن "العشوائية"  تظهر بإستمرار في الوصف العلمي للظواهر المختلفة ! و هذه بعض الأمثلة:
-        النظرية السائدة حاليا في علم الكونيات cosmology هي الإنفجار الكبير The Big Bang Theory ، و هي الأساس لتفسير التراكيب المنتظمة للكون الحالي على كافة المستويات من المستوى الكبير Large-scale structure  مرورا بعناقيد المجرات  Galaxies Super-Clusters و حتى مدار الأرض حول الشمس. نجد في قلب هذه العملية أن التفسير الأساسي لكل هذه التراكيب المعاصرة هو "عشوائية" تذبذبات كمومية Quantum Fluctuations  في اللحظات الأولى من الإنفجار [1] أخلت بالتجانس التام لمادته قبيل التضخم Inflation  الشيء الذي صنع أنوية seeds عملت عليها الجاذبية لاحقا لتتجمع المادة و تتطور من بعد ذلك حتى اليوم، أي أن نظام الكون الحالي و موقع الأرض من الشمس مثلا متأثر بتلك "العشوائية" الإبتدائية !
-        مدارات الكواكب حول الشمس و بدرجة أكبر مدارات حزام الكويكبات و المذنبات برغم إمتثالها لقانون نيوتن للجاذبية إلا أنها تعاني "فوضى" Chaos شديدة تجعل من المستحيل التنبؤ بمساراتها عبر بضع عشرات ملايين السنين [2] !! فإذا تذكرنا أن إنقراض الديناصورات [3] قبل 66 مليون سنة تم في الغالب بسبب كويكب شارد من الحزام في توقيت حرج [4] بالنسبة لها (لو تأخر أو تقدم بضع ملايين من السنين لما إنقرضت) لوجدنا "العشوائية" أيضا في سماءنا القريبة !
-        لعل المثال الأصدق تمثيلا للفوضى Chaos  هو المناخ weather حيث تتعدد العوامل المؤثرة فيه مثل البقع الشمسية Sun Spots و دوران الأرض و جاذبية القمر ... إلخ. المسألة لا تتعلق هنا بصعوبة حساب التأثيرات فحسب و إنما بـ "حساسية مفرطة للشروط الأولية" تؤثر في النظم المعقدة حيث تؤدي نفس البدايات لنفس النظام لعدد من النتائج الممكنة دون إمكانية التنبؤ مسبقا بأيها سيقع عليه الإختيار ! رغم ذلك يمكن التنبؤ بإتجاهات عامة Trends من دراسة التغير المستمر للمناخ بحيث نكتشف أن الفوضى تنتج شكلا من النظام order في مثل هذه النظم الفوضوية Chaotic systems . [5]
-        كمثال أخير هناك جهاز المناعة البشري حيث يجب على جينات الخلايا المناعية المنتجه حديثا بنقي العظام التعامل مع الأشكال المتغيرة بإستمرار لبروتينات الجراثيم المختلفة، تتم عملية التعرف هذه عبر عملية تسمى إعادة الخلط الجيني V(D)J recombination و هي عملية "عشوائية" بمعنى أنها تشبه خلط أوراق الكوشتينة لتنتج تراكيبا جديدة دون معرفة ما ستلتقيه من بروتينات الجراثيم أي دون أن تكون موجهة Guided بتأثير الجراثيم التي لم تصل الجسم بعد و التي تطفر "عشوائيا" هي الأخرى بحيث لا يمكن توقعها مسبقا و مع ذلك تنجح المناعه كل مرة تقريبا في إنتاج ماهو مناسب من أجسام مضادة توافق تماما ما تبدعه الجراثيم الجديدة  [6].

يمكن تعداد أمثلة أخرى كثيرة من الكيمياء و الحاسوب و علوم البيئة و أخريات تلعب فيها العشوائية و الفوضى دورا مهما إلى جانب القوانين في صياغة النظام، يمكن مراجعة كتاب "نظام ينتج عن الشواش" [7] لنقاش أوفى عن الأمثلة الأخرى. و الخلاصة أن العشوائية ليست حكرا على النظرية التطورية بل تلعب نفس الدور تماما في تفسيرات غالب الظواهر الكونية الأخرى، بل أن العشوائية الفيزيائية في "خلق" السماوات و الأرض تتجاوز بمراحل "عشوائية" التطور البسيطة !

إذن ماذا تعني العشوائية
ما الذي تعنيه العشوائية بالضبط حين تستعملها العلوم في هذه السياقات ؟
فلنبدأ من الفهم البسيط و الشائع الوارد بالقواميس، حيث يعرف قاموس أكسفورد [8]  العشوائية كالآتي :" كونه بلا هدف محدد و لا غاية، غير مرسل أو موجه في طريق بعينه، حادث أو فعل من غير منهجية أو إختيار واع، صدفه". هذا تقريبا هو الإستعمال الشائع للكلمة في الحياة اليومية، و لكن كما نعرف فإن القواميس لا تتعدى إحصاء  الإستعمال الشائع لكلمة ما و ليست حجه على المعاني المختلفة للكلمة في السياقات المختلفة، فالصلاة مثلا لغويا هي الدعاء و لكنها في الدين الإسلامي مثلا عبادة لها شكل مخصوص، و الشاهد أن كلمة عشوائية في اللغات الأوروبية كانت تعني :"السرعة و خبب الخيل"، فبأي معنى تستعمل هذه الكلمة بالذات في العلوم اليوم؟
إذا إستشرنا الموسوعة الإنترنتية الشهيرة ويكيبيديا حول العشوائية فسنجد التعريف الآتي :" غياب النمط Pattern و عدم القدرة على التنبؤ في الأحداث" [9]، هذا بالضبط هو الحد الأدنى المتفق عليه في الإستعمال العلمي للعشوائية ألا و هو (غياب قابلية التنبؤ Unpredictability) [10]
فالعلوم الحديثة بطبيعتها رياضية الطابع و قد أدت بعض التطورات التاريخية[11] كإكتشاف الإنتروبيا و ميكانيكا الكم بالإضافة لإرساء أسس النظرية الرياضية للإحتمالات بتزايد الإهتمام بمفهوم العشوائية ليتخذ تعريفات مختلفة بالعلوم المختلفة يجمع بينها جميعا مبدأ (غياب قابلية التنبؤ).  و لتتضح الصورة أكثر فلنقم بتتبع ما يعنيه مفهوم "العشوائية" بأحد العلوم، و ليكن مثلا (نظرية التطور) حتى نكون على بينة من مصداقية هذا التعريف !!

العشوائية في نظرية التطور
 للإجابة فلنبدأ بمبتدر النظرية نفسه: السيد دارون شخصيا ! و أفضل مكان للإجابة سنجده في الدراسة الوافية لـ كيرتس جونسون في كتابه الممتع : نرد داروين : فكرة الصدفة في فكر تشارلز دارون[12]. قام المؤلف بدراسة وافيه لكتابات دارون كلها (الرسمية و المكاتبات و غيرها) و خلص للنتائج الآتية:
هناك معنيين للعشوائية عند دارون، الأول هو العشوائية كمفهوم إحتمالي حيث تزداد إحتمالية التكاثر و البقاء للصفات الأكثر تكيفا مع البيئة عبر الإنتخاب الطبيعي _ رغم أنها ستتأرجح بعشوائية على المدى القريب_  لكنها ستسود آجلا بفضل نظرية الإحتمالات. المعنى الثاني للعشوائية يختص بمصدر التنوع الجيني المسبب لإختلاف الصفات، حيث يظن دارون أحيانا أنه يتم وفق قوانين غير معروفة لنا حاليا، بينما في أحيان أخرى يؤكد بأن سبب التنوع عشوائي بمعنى أنه مبدئيا غير قابل للتنبؤ به و لا يحكمه قانون جامع، و يبدو أنه في أواخر حياته إنحاز لكونه غير قابل للتنبؤ به.
ثم نتقدم خطوة أخرى لتطورات القرن العشرين التي تجاوزت دارون في التقعيد النظري لنظرية التطور على هدى علوم الجينات الجديدة آنذاك فيما يسمى بالتجميع الحديث Modern Synthesis أو الداروينية الجديدة neo Darwinism و الذي لا يزال مسيطرا على الساحة العلمية اليوم. تمتاز هذه الصياغة الحديثة بالبحوث المركزية لكل من فيشر Fisher  هالدين Haladene و رايت wright و غيرهم من العلماء الذين صاغوا علم  (جينات المجموعات Population Genetics )الذي يعتبر العمود الفقري للنظرية التطورية اليوم[13] جنبا إلى جنب مع نطاقات أخرى. هنا في النظرية الحديثة للتطور سنجد الإستعمال المحدد رياضيا للعشوائية كمفهوم إحتمالي/إحصائي من الدرجة الأولى حيث تضج معادلات النظرية التطورية بمفاهيم مثل الإختيار العشوائي Random Sampling و غيره من حقول الرياضيات الإحتمالية.
بل حتى إن فتحنا الكتب المرجعية المعاصرة للنظرية التطورية،تلك الكتب التي تدرس في فصول البيولوجيا التطورية بأرقى الجامعات اليوم فسنجد أن التعريفات و النقاشات تدور حول إستقلالية الطفرات عن الحوجة التكيفية للكائنات بمعنى أن حدوث الطفرة لا تحدده حوجه الكائن لها،  و هذا تعريف يقوم على المعنى الثاني الذي تبناه دارون بأيامه الأخيرة و القائل بأن حدوث الطفرات لا يمكن التنبؤ به مبدئيا و أن التطور لا يتبع نمطا يمكن معرفته مسبقا.
إذن في نهاية المطاف، فإن إستعمال مفهوم "العشوائية" بالتطور يتراوح بين حدود رياضية من جهة و مفهوم اللاقابلية للتنبؤ من جهة أخرى، بلا أي إشارة لما يفهم من مصطلح عشوائية في الإستخدام اليومي من عبثية! 
لكن كيف يمكن أن نفهم دور العشوائية في إنتاج التعقد المشاهد بيولوجيا ؟ أي كيف يمكن لعشوائية إحتمالية أن تساهم في خلق نظام ؟ هنا سنعالج أحد أهم أسباب سوء الفهم للبيولوجيا التطورية، فكما يقول دوكنز فإن :(النظرية التطورية يساء فهمها دوما بإعتبارها نظرية في الصدفة البحته ! بينما الحقيقة هي أن المفهوم المركزي في التطور هو التنوع الجيني Genetic Variation و سواء أكان عشوائيا أم لا فإن النظرية التطورية ستعمل بسلاسة مادام هناك تنوع بغض النظر عن طبيعته (عشوائية أو موجهة بقانون) لأن هذا يتيح للإنتخاب الطبيعي و غيره من الآليات التطورية العمل لإنتاج التعقد المشاهد، و في الحقيقة فإن الطفر ليس عشوائيا تماما كما ظن أوائل الدارونيين فللطفرات أسباب لذا هي ليست عشوائية من هذه الناحية و لكنها كذلك بالنسبة لآثارها على الكائن)[14].
بل إن هناك من دافع عن دور تنظيمي للعشوائية و الصدفة كما يوضح الإقتباس الآتي من أحد أشهر علماء البيولوجيا التطورية المحدثين ستيفن ج جولد
S J Gould : " في اللغة الإنجليزية العادية الحدث العشوائي هو الذي يكون بلا نظام، توقع أو نمط. توحي الكلمة بالتفكك و التفرق و الفوضى التي بلا شكل و الخوف. و برغم ذلك فإنه من المثير للسخرية فإن الحس العلمي للكلمة ينقل بالضبط عكس هذه الإرتباطات السالبه! فالظاهرة المحكومة بالصدفة تنتج بساطة بالغة و نظاما و توقعا _ على الأقل هذا صحيح في المدى الطويل. و هكذا إن كنت تود فهم أنماط عبر حقب تاريخية طويلة فمن الأفضل أن تأمل في أن تجد العشوائية" [15]
و في الحقيقة فإن علوم الحاسوب الحديثة إكتشفت كيف أن إدخال العشوائية في الحوسبة يتيح أحيانا الوصول لحلول لا يمكن الوصول إليها بإستعمال الطرق الحتمية التقليدية، هذا يعرف بـ الخوارزميات العشوائية Randomized Algorithms [16]. لذا فإن عشوائية الطفر لا يجب النظر إليها بمعزل عن العوامل غير العشوائية الأخرى كالإنتخاب الطبيعي مثلا.

العشوائية و الفلسفة
بعد هذا الإستعراض للعشوائية في العلوم عامة و نظرية التطور خاصة نأتي للأسئلة الأكثر إثارة: ما هي حقيقة العشوائية إذن ؟ و لماذا من السهل علينا التفكير فيها كمرادف للفوضى؟ و هل تتعارض مع الحتمية Determinism مثلا؟
 في الفلسفة هناك سؤال مفتوح حول حقيقة العشوائية: أهي أمر يعود فقط لقصور معرفتنا Epistemic  أم أن لها وجودا موضوعيا كأحد خصائص الوجود Ontic ؟
هذه التفرقه تنبع من تعريف العشوائية كـ (غياب القدرة على التنبؤ)، فلربما كان عدم التنبؤ ناجما عن جهلنا فقط (سواء أكان جهلا مؤقتا أم مبدئيا) بطبيعة الظاهرة التي نراها عشوائية، و ليس كإنعكاس لعدم وجود قانون أو إنتظام مطلقا وراء الظاهرة.
المثال الأشهر لذلك هو سلسة الأرقام التالية :
3141592653589793238462643383279502884197169399375105820974944592307816406286208998628034825342117067982148086513282306647093844609550582231725359408128481117450284102701938521105559644622948954930381964428810975665933446128475648233786783165271201909145648566923460348610454326648213393607260249141273724587006606315588174881520920962829254091715364367892590360011330530548820466521384146951941511609433057270365759591953092186117381932611793105118548074462379962749567351885752724891227938183011949129833673362440656643086021394946395224737190702179860943702770539217176293176752384674818467669405132000568127145263560827785771342757789609173637178721468440901224953430146549585371050792279689258923542019956112129021960864034418159813629774771309960518707211349999998372978049951059731732816096318595
حيث تنجح بسهولة في المرور بكل الإختبارات الرياضية للعشوائية تقريبا بنفس درجة العشوائية الكمومية (التي تعتبر أقصى عشوائية نعرفها) [17]، و لن نستطيع التنبؤ بأي رقم في السلسلة لكونها "عشوائية" تماما بالنسبة لنا .. ثم نعرف أنها تمثل ببساطة (باي) أي ناتج قسمة محيط الدائرة على قطرها !!! و هذا بالطبع يجعلها غير عشوائية على الإطلاق !
لهذا السبب و غيره ليست هناك إجابه حول طبيعة العشوائية و لا يزال سؤال كونها معرفية أم وجودية مفتوحا تماما، و لكن هناك محاولات جيدة في إتقان تعريفها بحيث نستطيع ملاحظة ماهو غير عشوائي و فهمه على الأقل.
من الجدير بالذكر أن حدسنا حول العشوائية يشوبه الكثير من القصور، حيث أن الدراسات السيكولوجية[18] قد أثبتت أننا كثيرا ما نرى العشوائية في ماهو منتظم ، و أيضا نرى الإنتظام في ما هو عشوائي ! لذا فإن ضرورة تعريف (موضوعي) للعشوائية لهو أمر مهم في فهمنا لها.
ما أود التعرض له هنا بإختصار هو رؤية العالم الرياضي Chaitin و نظريته حول نظرية المعلومات الخوارزمية Algorithmic Information Theory [19]حيث قام فيها بإيجاد صلات مدهشة بين العشوائية و التعقد و النظام. بهذه النظرية هناك نتيجة أساسية تقول بأنه من المستحيل مبدئيا معرفة ما إذا كان شيئا ما هو "عشوائي" حقا أم أن له "مظهرا عشوائيا" ثم يمضي بعد ذلك ليعرف العشوائية بكونها عدم القدرة على وصف ظاهرة ما بمعلومات أقل منها، أي أن العدد العشوائي المطلق مثلا هو العدد الذي لا يمكن إختصاره في معادلة أو وصف أقل من ذكره بالكامل، كما ينتج عن هذا وجود درجات من العشوائية تترتب حسب التعقد اللازم لوصفها.  هنا تكون العشوائية دالة في الوصف العلمي للظاهرة، فكلما إستطعنا وصفها بمعلومات أقل كانت أقل عشوائية و كلما عجزنا عن إيجاد أي نمط داخلي فيها يتيح التنبؤ بها كلما إستحالت أكثر عشوائية، و هكذا يمكن أن تكون ظاهرة ما أكثر أو أقل عشوائية حسب تقدم معرفتنا بها.

يتبقى سؤال الحتمية إذن ..
رغم غرابة الأمر لكن العشوائية في الحقيقة متوافقه مع الحتمية، فهناك نظم تعتبر حتمية مثل النظم الفوضوية الحتمية Deterministic Chaotic systems و التي هي بالتعريف ليست قابلة للتنبؤ بها Unpredictable برغم حتميتها (بمعنى أنها محدده بالظروف الأولية)، المثال الأشهر لمثل هذه النظم هو المناخ الذي يستفيد كثيرا من النماذج الرياضية للفوضوية الحتمية [20]. الجدير بالذكر أن هناك رأيا يقول بأن التطور Evolution هو عملية فوضوية Chaotic في الأساس  و إن صحت هذه الرؤية فيمكن القول بأنه عشوائي و حتمي معا [21]!!
سؤال الحتمية و العشوائية يجد تحديه الأعظم في عشوائية الكم كمسألة التحلل الإشعاعي التي تبدو كمثال مطلق عن العشوائية التامة الفيزيائية، و لكن من بين النماذج الكثيرة لميكانيكا الكم هناك إثنان متوافقان مع رؤية حتمية للعالم أحدهما هو ميكانيما بوهم و الآخر هو فرضية العوالم المتعددة، حيث يمكن التفكير في عالم نيوتوني/آينشتايني سعيد لا يُلعب بالنرد في عمق تكوينه و لكن على حساب التسليم بالفعل عن بعد Non-Locality أو تكاثر عوالم متوازية بلا حد ! و حينها يمكننا القول بأن العشوائية العجيبة للكم رغم كونها لا تزال غير قابلة للتنبؤ بها إلا أنها حتمية تماما و مؤدبه رغم معيشتنا في عالم أغرب من الخيال.
ختاما .. أود قول بعض الكلمات كرؤية شخصية بحته حول تعلق الإيمان بالنظام و العشوائية، حيث أن أغلب النقاشات الفلسفية/الدينية حول التطور إنما تدور حول دلالة الخلق على الخالق ..

المعنى الفلسفي/الديني للنظام و اللانظام في الخلق
لنتجاهل للحظة التعقد الحقيقي للمسألة بالعالم الواقعي و لنتصور أن العالم يقع في إحدى طرفي النقيض : عالم حتمي و منتظم تماما لا مكان فيه للفوضى و لا للعشوائية أو عالم عشوائي تماما بلا أي مظاهر للإنتظام أو لقانون جامع يحكمه، و لنسأل : أي من هذين العالمين متوافق مع الإيمان ؟
إذا أمعنا النظر قليلا فسنجد نتيجة مدهشة و هي أن كليهما متوافقان مع الإيمان و الإلحاد معا بإختلاف التفاسير ليس إلا !! فالعالم الحتمي كان هو ما إستند عليه لابلاس و شيطانه demon في إلحاده حيث لا يقوم الكون بنفسه ! بينما إستند المؤمنون على نفس هذه الحتمية ليقولوا بإثبات الصانع و أنه من وضع كل شيء بمكانه و قدر له كساعة نيوتن . أما العالم الآخر العشوائي فيمكن أن يجادل الملحد بكونه تجسيد للعبث في أبهى صوره بينما يجادل المؤمن بأنه تجسيد للإرادة الإلهية المطلقة التي لا تحدها حدود.
في كلتا الحالتين ليس هناك من خطأ منطقي في التعليل الذي يستند على الموقف المبدئي من المسألة أكثر من كونه تعبيرا أمينا عن تضامين ملزمة تنتج تلقائيا عن حالة العالم من النظام أو اللانظام.
و عودة إلى عالمنا الحقيقي الذي تلعب فيه العشوائية و الإنتظام أدورا متساوقه لإنتاج التعقد المشاهد، حيث يمكن التنبؤ و إيجاد القوانين العامة للظواهر جنبا إلى جنب مع العشوائية و اللاتنبؤ التي تحكم تطور الكثير من نفس تلك الظواهر لينتج الجمال و التعقد الآخاذ للكون. ليكون السؤال: هل يعد عنصر الفوضى خصما على فكرة الحكمة و الغاية في الكون؟
أجد نفسي متفقا مع إستبصار العلامة الهندي محمد إقبال في كتابه "تجديد التفكير الديني" خصما على الفكرة ذات القوة التاريخية و المعروفة بـ "دليل العناية و الإختراع" كما عبر عنها بأناقة الفيلسوف الأندلسي إبن رشد. يقول محمد إقبال:
" دليل الغائية ليس خيرا من غيره .. فهو يتقصى المعلول للوصول إلى نوع علته ، و يستنتج من آثار البصيرة و من القصد و من التوافق في الطبيعة .. وجود موجود عالم بنفسه لا نهاية لعقله و قدرته. و هذا الدليل في أحسن صوره يزودنا بوجود مخترع خارج عن الكون، خبير يبدع الصنع من مادة موات، صعبة القياد، سابقة الوجود، ليس لعناصرها من حيث طبيعتها القدرة على التركيب و التأليف المنظم. و يوصلنا إلى وجود مخترع فقط لا إلى وجود خالق، و حتى إذا فرضنا أنه خالق أيضا للمادة فليس مما يعلي شأن حكمته أنه خلق لذاته المتاعب بأن خلق المادة المعاندة أولا ثم تغلب على ممانعتها بإستعمال أساليب دخيلة على طبيعتها الأصلية. و الصانع إذا أعتبر خارجا عن مادة صنعه وجب أن يبقى دائما محدودا بها. فيصبح بهذا صانعا متناهيا تضطره وسائله المحدودة إلى أن يتغلب على ما يلاقيه من صعاب على غرار ما يفعله الصانع من البشر، و في الحق إن وجه التماثل الذي يعتمد عليه الدليل لا يعتد به أصلا. فليس ثمة تماثل حقيقي بين ما يصنعه الصانع البشري و بين ظواهر الطبيعة"
ما لاحظة محمد إقبال هنا هو أن الإيمان لا ينتج عن برهان منطقي عقلاني و إنما عن تأمل روحي في الأساس، و أن طريقة خلق الكون ليست هي مربط الفرس و إنما التفكر فيها هو الآية أو الإشارة التي تفضي للشهود.
بالنسبة لي فإن آيات السماوات و الأرض و المخلوقات كما هي معروضة علينا لا كما نتصور أنها نتجت كفيلة بأن تقدح بفطرتنا ذكرى الشهادة الأولى ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) الأعراف/ 172، 173 ، بغض النظر عن التعليلات العقلية المتضمنة في أدلة العناية و الإختراع التي تفرض ضمنا على الخالق _ بقصور عقولنا _ طريقة محددة في الخلق يمكن عرضها على التجربة و رفض الإيمان إن فشلنا في إثباتها !!
بالنسبة لي فإن الرؤية الكلاديسكوبية Kaleidoscopic vision المتضمنة في عناصر القانون و الفوضى بالتطور و التحولات المذهلة للمخلوقات عبر آلاف ملايين السنين تمنحني "شهادة" حية لفعل الخلق أكثر ثراءً و جمالا من القصة البسيطة للخلق المباشر المتضمنه بكل الوثنيات القديمة. و لا أرى أي تعارض بين العشوائية المهمة للنظام في التطور و بين الإيمان بخالق حكيم عليم لا نستطيع سبر كنهه و لا طرق عمله في مخلوقاته.
بل أرى أن تناسق عنصر القانون و اللاتنبؤية عبر كل مظاهر الكون من بدئه لمنتهاه أقرب لروح الآية الكريمة : " أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ" الأعراف 57 ، حيث أفهم الخلق بالسنن التي نكتشفها بصيغة القوانين و الأمر بما لا يمكن سبره و التنبؤ به مما يعتري الكون و التكون على الدوام.
هذا بإختصار شديد مجمل موقفي من قضية التطور و الإيمان. مع المحبه

المراجع
10-                   http://bjps.oxfordjournals.org/content/56/4/749.abstract
11-                   http://en.wikipedia.org/wiki/History_of_randomness
14-                Dawkins R Climbing Mount Improbable Viking Press 1996
15-                Gould S J "Betting on chance -- and no fair peeking", essay 29 in Eight Little Piggies, Norton 1993
16-                   http://en.wikipedia.org/wiki/Randomized_algorithm
17-                   Testing the A-periodic Randomness of π - http://members.tele2.nl/galien8/pirandom/pirandom.html
18-                   gilovich (1985) the hot hand in basketball. on the misperception of random sequences
19-                   https://www.cs.auckland.ac.nz/~chaitin/sciamer.html
20-                   http://en.wikipedia.org/wiki/Chaos_theory
21-                   The chaos theory of evolution newscientist issue 2782

هناك 5 تعليقات: